قد تتقاتل الوحوش وتتنافر الطيور في سبيل القوت أو النسل لكن اقتتالها لحظي لا يسبقه تدبير وترصد ولا يرافقه حقد ولا غل ولا تلحقه عواقب وخيمة وعداوة دائمة، أما الإنسان فيعش على قوانين وضعها هو لذاته واستمدها من كبريائه وتعاليه ويغذيها بقدر كبير من الإساءة لأبناء جنسه متنكبا كل القيم والقوانين التي يتزين بالحديث عنها أو يزعم الانتماء إليها ويدعي حمايتها والمطالبة بامتثالها، فتراه يحتقر هذا وينتقص ذاك ويشن حربا هنا ويدبر مكيدة هناك، مما لم يكن بالمقدور أن نتصور أحدا لم يعان أو مازال يعاني من إساءة الإنسان للإنسان؛ لأن المسيء عادة يرسل عينيه الحاقدتين لقنص مثالب إنسان آخر والتمتع غاية الإمتاع أن يلتفت إليه ويتحدث عنه الآخرون، ومهما حاول الموجهون وحراق البخور أن يرسموا لنا الأرض كرقعة فردوس لا نسمع فيها لغوا ولا تأثيما فلن نقتنع بأن الإنسان هو المخلوق الأفضل على الأرض، بل هو الأرذل والأسفل حينما يتخلى عن وظيفة الإعمار إلى الإيذاء والدمار، وللحق فليس كل إنسان كذلك، ولكن هناك فئة من الناس (لم تعد قليلة) جعلت من وظيفتها في الحياة التلهي بقنص العيوب وتتبع السقطات ورغبة الانتقاص والازدراء، فتقابلها طائفة تحاول أن ترافع أو تدافع عن نفسها أمام محكمة المجتمع، وهنا تختلف الوسائل ويختلف المترافعون بحسب التهمة، فكيف يترافع الإنسان عن ذاته أما الإنسان من منطلق الثقافة التعاملية لا من منظور قانوني أو قضائي ؟ من أهم وسائل الترافع الانصراف والصدود عن المسيء واللا مبالاة به، وهو ما يسمى في الثقافة الخليجية (التطنيش) من منطلق: (النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله) ومن الوسائل أن يتجه المرافع عن ذاته اتجاها إيجابيا فيجعل من الإساءة محفزا له على العمل الجاد متخذا من المسيئين متمما لشخصه وشخصيته فهم يبرزون زلته فيتجنبها ويرى منهم منافسين فيسعى إلى بزهم. وهناك من يرى أن الإعراض صفحا عمن يسيء إليه طريقة ناجحة للمرافعة؛ لأن الإساءة عند المسيء مثل المصابيح لا يحسن إيقادها في ظلام السوء إلاه لكنها تشحب تدريجيا أمام فجر الصبر الذي يلوذ به ويحتمي خلفه المرافع فتكل سهام الإيذاء وتنبو سيوف الغدر. وهناك من يرى أن أنجع طريقة للترافع عن النفس أمام من أساء إليها الهروب إلى زوايا الماضي السحيق ليجد من الذكرى سلوة، وفي بطون التاريخ خلوة يصبح معها المسيء نسيا منسيا، فيقبل على طلب العلم والقراءة، ليعيش ماضيا مشرقا ويتناسى حاضرا لوثته الإساءات. وهناك من يستجيب للميزة العربية التي خلقتها الثقافة السلبية فيزأر جامعا قبيلته متصورا أن كل من على الأرض يمكن أن يخضع لسلطان خيمته فيقابل الإساءة بمثلها ويذهب الحب أباديد ويرافع عن نفسه بخوض معركة أشبه ما تكون بحرب (البسوس) أو (داحس والغبراء). غير أن أقبح وأخطر وسائل الإساءة والترافع في آن معا هو توظيف وسائل التواصل الحديث في التشهير والتحقير والإيذاء. وللحديث بقية. تويتر @aanzs1417 [email protected]