دقائق معدودات حتى وصلنا إلى المركز المعني «مركز المجازة»، في البداية وقع نظري على حقائب ضخمة يقف خلفها رجال من حرس الحدود يتوشحون بسلاح خاص، عندها لم أجد فارقا في الشكل ولا في العتاد الشخصي، فسألت مرافقي لا هؤلاء يختلفون ولا العتاد يختلف عدا تلك الحقائب الغامضة، فدعاني للصبر قليلا وسأكتشف بنفسي الأمر، وعندها لكل حادث حديث. بدأت أدقق في الملامح لعلي أصل إلى المبتغى، سألت نفسي، ماذا يختلف هؤلاء، النظرة الأولى لأحدهم كان وقعها علي مختلفا.. أشعر بقوته وهيبته، وأشعر بهدوئه وحنكته، وأشعر باستعداده للصعود إلى حيث مشارف الموت، وفاء وعهدا وإيمانا بأنه حامي الوطن من الدخلاء والغرباء. سألت أحدهم.. أمستعد للرحيل، أجاب بهدوء بل مستعد للشهادة، هناك لا نعرف إلا الرحيل، فوق الجبال نعيش وحدنا يملأنا الإيمان بالقضاء والقدر، قوتنا نستمدها من إيماننا بأنه «جف القلم»، وعزيمتنا نستوحيها من أبناء الوطن الأبرياء الذين لا ذنب لهم في أن يداهمهم ضال أو مخرب، استأمنونا على ظهورهم، وندعو الله أن يعيننا على حمل الأمانة. ولكنكم استعددتم للعمل فوق الجبال.. فأجاب: التدريب أساس الصعود، والتخصص مطلوب لدقة التصويب. هنا تدخل النقيب أحمد محمد المهجري رئيس قسم التدريب بقطاع حرس الحدود في ظهران الجنوب، ليؤكد أن التدريب على رأس العمل من الأولويات التي يعتمد عليها حرس الحدود في تطوير قدرات منسوبيه من ضباط وأفراد، سواء للتدريب على الأسلحة أو التجهيزات، أو حتى الجانب اللياقي، بإشراف تام من قائد القطاع، وهناك ربط بين الجانب التدريبي بالجانب العملياتي ليستطيع منسوبو القطاع التكيف مع طبيعة المنطقة الجغرافية وأداء مهامهم أثناء المواجهات على مدار الساعة بكل كفاءة وقدرة على حسم الموقف لصالحهم بأقل خسائر وبأسرع وقت ممكن مع التركيز على التدريب الليلي بحكم أن أغلب المواجهات تتم ليلا. استعدت نظري باتجاه مركز الربوعة، حيث التدريب على فك وتدريب الأسلحة من رجال حرس الحدود وهم معصوبو العين، استغربت كيفية الدقة التي يعمل بها هؤلاء الرجال، لكنهم أكدوا لي أن التعامل مع الظلام يفرض التدريب معصوب العين، لأنه لا أنوار في قمم الجبال ويجب التعامل بحرص في هذا الجانب. عندها عرفت أن هؤلاء الرجال يختلفون في تدريبهم وعتادهم، ولكن ما زال السؤال قائما.. ماذا في تلك الصناديق الضخمة؟.. فأطلعوني على ما يحتويه أحدها، إنها كاميرات حرارية للتعامل ليلا والتعرف على الأغراب الذين يتجاوزون الحدود، وتعمل في أحلك الليالي المظلمة ولا علاقة لها بالأضواء، لأنها تعمل وفق أعلى معايير التقنية. الصعود إلى القمة حزموا حقائبهم واستقلوا السيارات تأهبا للرحيل، حيث قمم الجبال، عبر طرق وعرة وخطرة، باتجاه الشريط الحدودي، وفيما كانت لحظة الانطلاق أشبه بانطلاقة رجال الدفاع المدني للحاق بحادث ما، سألت مرافقي هل هناك شيء يستوجب السرعة في الانطلاقة على هذا النحو، فكان الرد بالتأكيد على أن هذا المشهد يتكرر يوميا وهو يعني أن «الأشاوس» جاهزون للرد على الدخلاء في أي وقت، وهي تعني أنهم مستعدون وبكامل الجاهزية. وبدأنا رحلة الصعود، أعرف تلك الجبال جيدا، فهي صماء لا تتحدث مع أحد، وجوفاء لا تضم أحياء، وغادرة لا تعين عابرا ولا تائها، وقبل ذلك فهي جائعة تأكل كل من أتاها مرتحلا، فما بال هؤلاء «الأشاوس» يفعلون في القمم، ويتعايشون مع الظلام ليل نهار استبسالا ودفاعا عن حمى الوطن، فالدخلاء والغرباء يروضون الجبال طمعا في صيد ثمين يخربون به الأوطان من أجل غلة شخصية، فما بال هؤلاء؟ سؤال تلقفه العقيد سعيد المهجري قائد قطاع حرس الحدود بظهران الجنوب، الذي رافقته في رحلة الصعود إلى قمة الجبال، فكان الرد واضحا، طمع الدخلاء شخصي، وطمع هؤلاء الأشاوس محبة كل الوطن، ثم دعاني للتشبث جيدا، فأمسكت بالمقعد حتى لا أبدو مترنحا على مقعدي، لكنني اندهشت كثيرا فالسيارة التي تعبر مسرعة لا تضيء أنوارها الأمامية، فاعتقدت أنه ربما أصاب كشافاتها عطب، فوضعت السؤال في أذن المهجري، فنفى أي عطب، بل كل السيارات مؤهلة للصعود وتخضع للصيانة بدقة، خاصة في الإطارات والمستلزمات الأخرى وهناك قسم خاص لهذا العمل، لكن الصعود يتطلب إطفاء الأنوار، حتى لا نكون صيدا سهلا للغادرين والغرباء. كيف تقودون؟ سألتهم مستفسرا عن الكيفية التي يمكن أن يقود السائق بها السيارة على هذا النحو، وهي تعبر الجبال والصخور ولا يكاد يرى ما خلف الزجاج، فأتاني الرد بأنه يعرف كل ضالة في هذا الجبل، بل كل صخرة تسقط في عشية أو ضحاها يعرفها السائق، ولا يحتاج لأنوار تكشفه أمام الغرباء. مرت السيارة بتضاريس وعرة، وفيما العيون ترقب يمينا ويسارا، لم أعرف إلى ماذا ينظرون فكل ما حولي بات أسود، لكنهم يبدو أنهم يعرفون كيف يتحركون، هم يدققون حتى في الصخور المتلاصقة، وكأنها توحي لهم بما خلفها أو ما أسفلها وتفضح لهم ستر المغتصبين لبراءتها، سألتهم أتعرفون ما إذا كان مر عليها غرباء؟.. فأجابوني بل نعرف كيف يعبر الغرباء. إذن هي خبرة من نوع خاص، تتشابه مع قصاصي الأثر، فهل يلجأ الغرباء لهذا النوع أيضا للتحايل والهروب بالتعاون مع الصخور، أو لعلها «مخاواة» مع هذه الجبال، فجاء الرد: هنا يأتي دور الخبرة والتكنولوجيا في حسمها لصالحنا وقبل ذلك رعاية الله لأنهم يعبرون لينالوا من الوطن، ونحن نعبر لنحافظ على أمن وسلامة أبرياء. آثار الغرباء ربما يعرفها قصاصو الأثر، فكيف تستدلون عليها وسط الظلام وموجة التغيرات المناخية التي تهب على الموقع، بالإضافة إلى الحيوانات التي منها مفترس ومنها ما دون ذلك؟ ربما لم يستكمل السؤال، حتى بدأنا في التوقف، حتى اعتقدت أنه ربما تعطلت السيارة، إذ كان السكون سيد الموقف، وسرعان ما ترجل جنود الوطن وبقيت ورفيقي لا نعرف من الأمر شيئا، لكن الابتعاد عن السيارة ربما أهداني للتأكد من أن في الأمر شيئا، فسارعت بتوثيق الحدث ترجلا من السيارة، لكن العقيد المهجري دعانا للعودة أدراجنا، لأنه ثمة آثار غرباء في الموقع، وبعد دقائق معدودات عادوا للسيارة، واستأنفنا الصعود، لكن بعد دقائق معدودات توقفت السيارة مجددا وترجلوا منها مرة أخرى «إنها آثار لغرباء، عليكما العودة للسيارة مجددا والبقاء فيها، وفيما لم أنصع لهذا الأمر طالبا البقاء، لم يكن هناك وقت للجدال بين الأخذ والرد، إذ سرعان ما ارتفعت إشارة الانحناء، والانبطاح أرضا، فاستسلم الجميع للأوامر، وكان الانبطاح حاضرا، فيما قعقعة السلاح واضحة، والتأهب ظاهرا، ولا أنكر أنها المرة الأولى التي أكتم فيها أنفاسي وأنا لا أعرف من أمري شيئا، ويبدو أن سرعة الحدث جعلتني لا أفكر في شيء سوى الانتظار، وما هي إلا دقائق حتى كان ثمة صوت يقترب أكثر فأكثر، وسرعان ما علا الصراخ والصيحات، ليتبادل الطرفان الرموز وكلمات السر، استغربت من الكلمات المتبادلة ما بين سؤال وجواب بسرعة متناهية وفي لمح البصر، اعتدلت قامتنا فإذا بأربعة جنود جدد بجوارنا، من أين جاء هؤلاء.. وهل الأمر تدريب.. وكيف يكون التدريب والطلقات في طريقها لأنبوب التصويب..؟ نقلت لمرافقي تلك التساؤلات، فنفى التدريب واستبعد محاكاة الكمين، وأكد أنه لا أحد كان ينتظر الآخر «وكل منا يعمل في نطاق عمله، بلا تدخل من أحد ولكن بتنسيق مع قيادته المباشرة، فالهم أكبر والمساحة شاسعة، والحرص واجب، فيما كلمات السر هي التي تكشف الارتباط، ومن لا ينطقها أو يجهلها يكشف أنه من الغرباء والدخلاء». وواصل: «رجال حرس الحدود يرقبون الغرباء وبمجرد تخطيهم نقطة ما محددة سلفا تتم المداهمة، وهذا ما حدث معنا، لكن الخبرة لها دور في التفريق بين العدو والصديق، ولعل السرعة التي تم بها تبادل الرموز هي التي تعين على تغلب الأمر، لأنه لا مجال للخطأ، خاصة أن المتربصين يستغلون نصف الثانية للانقضاض على حماة الوطن، وهو ذات التوقيت الذي يحمي الوطن من الغرباء، فهم الآن شعروا بنا ورتبوا لنا الوصول إلى هذه النقطة للتدخل والمداهمة في الوقت المناسب، لذا تعني «نصف الثانية» حياة أو موتا». لكنهم كيف لاحظونا بهذه السرعة؟ أجاب: «ربما كانت التقنيات الحديثة والتكنولوجيا حاضرة في هذا التوقيت، إضافة إلى عامل الخبرة». تنفسنا الصعداء واعتقدت أن التجربة الواقعية مرت بسلام، لكن في ذهني الأمر المحير في الحفاظ على النفس والذود بالنفس والحفاظ على الوطن، وسألت نفسي، ترى أيستحق هؤلاء الرجال أي جهد نفسي وعصف ذهني بعيدا عن العمل، ترى هل من الواجب أن يفكر هؤلاء في أي معاناة بأي نوع كان، ترى ألا يستحق هؤلاء «كل شيء» من أجل الحفاظ على «كل شيء». لم أنته من التساؤلات، فيما تجاوزت السيارة النقطة التي فجرت تلك التساؤلات، لكننا توقفنا مجددا، ثمة أثر في الموقع، ظننت أن تكرار الأثر في مواقع متقاربة وسيلة لتبادل لغة الكلام بين الاخوة سواء أكانوا في محور الأعداء أو في محور حماة الوطن، لكن ما دعاني لاستبعاد الاخوة أنه لم يكن هناك تنسيق مسبق مع أحد، لذا فإن الأثر حتما لعدو، فكانت الصيحة لرجال الحدود المرافقين «ترجلوا».. رغم أن الصيحة لم أكن معنيا بها، إلا أنني حملت مصيري على يدي هذه المرة، فالأولى وقعت على حين غفلة، وهذه على حين تربص، والمواجهة متوقعة، بل واجبة النفاذ، فماذا عساي أن أفعل، وأنا لا أحمل سلاحا ولا أعرف تدريبا، وحالي مثل الغريق في بحر، إلى أين المسار؟ مرة أخرى، كان السلاح مشهرا، فالقعقعة الأولى كانت كافية لجاهزية التصويب، واليد على الزناد، والقول شهادة، والشهادة شرف، والعزة لله، لتستمر الخطى مني بحيرة الجاهل وقلق الأعزل، ومنهم بقوة الإيمان وسلاح الرحمن، وتمتمة القرآن، حتى بدأت الأعين تلتفت يمنة ويسرة. هنا مصدر الضوء توقفنا، وبدأنا نرقب ما يمكن أن تنجبه جبال صماء بكماء، وليل مظلم، وسماء عشقتها النجوم فما برح ضوؤها أن يغدو ليعبرها لما دونها للأرض، ولكن جاء ضوء مبهر وسريع، وهذه المرة لم ينبطح أحد ولم ينحن أحد، لكنني فوجئت بما صاحب الضوء من طلق ناري، عندها أعلن المهجري أن الوضع مسيطر، استغربت لأننا وقعنا في الكمين، فكيف يعلن السيطرة على الموقف، لكن بثبات أعلن كلمة السر، فيما لم نكن نرى إلا أنفسنا وجها لوجه، ومن صاحوا علينا لا نرقبهم من وهج الضوء الساطع الذي حفنا. ثوان معدودات وحاصرنا رجال من كل صوب، تعرفوا علينا، ثم صافحونا، فأدركت أن الأمر أيضا مرتب مسبقا، لكن مرافقي أكد أنه على غرار الأول، لا ترتيب، فالهدف أسمى، ولا تدريب الآن فالوقت للعمل. وبالاستفسار عن الضوء الساطع الذي أبهر عيوننا، كانت الإجابة كافية: «هكذا نصطاد بعض الدخلاء والغرباء بكل أنواع التكنولوجيا، فهم راقبونا بالكاميرات الحرارية، ووقعنا في فخ يبهر نوره ليكشف الغرباء قبل أن يخمد». واصلنا المسير حتى استقر بنا الحال إلى سفح الجبل، وهناك بدأت رحلة المراقبة من عل، عيون ترقب الحركة بأحدث كاميرات حرارية، وأياد تحتاط لأية محاولة دخول غير شرعية، والكل متأهب، وغدا مسيرة الرصد والحصر والقبض.