الحديث عن البخل والبخلاء لا ينتهي، وكتب ويكتب كل يوم عن حياتهم أحلى القصص والنوادر والفصول، ودائما أتساءل ما إذا كان البخيل يعلم أنه بخيل، ويدرك أن الناس تعلم أنه شحيح (وجلة)؛ لأنه لا يمكن لأي إنسان طبيعي وسوي أن يقبل ويرضى بالانتقادات وكم اللمزات والغمزات الذي يتعرض له البخيل وتحاك في ظهره. فلسفة بخلاء اليوم مختلفة عن فلسفة بخلاء زمان، ويدافعون عن أنفسهم بمسميات وأعذار مختلفة أيضا عن السابق، فمنها الاقتصاد والحرص وعدم التبذير... إلى آخره من المبررات والمظلات التي يخفون تحتها الشح الشحيح، بينما ينقل لنا التاريخ أحد رؤوس البخل وهو يعترف بقوله: «وددت لو أن عشرة من الفقهاء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الأدباء تواطؤوا على ذمي واستسهلوا شتمي؛ حتى ينتشر ذلك في الآفاق، فلا يمتد إلي أمل آمل، ولا يبسط نحوي رجاء راجٍ». لو يعلم البخيل مدى احتقار واشمئزاز الناس منه واستنقاصه لما استمر في بخله، ولحاول ولو من باب المحاولة التمثيل بأنه ليس بخيلا، إلا أنه ودون شعور يتمادى في (استلطاخه)، ويظن أنه الأدهى والأذكى. لقاء صغير (جمعة) أو سهرة بسيطة في مقهى أو مطعم كفيلة بكشف ستر البخيل الذي يعرف بوضوح وجلاء، وكأنه (يحتفظ أو يربي ثعابين في جيبه)، فمجرد فكرة أن يدخل يده في جيبه لدفع الحساب أصبحت مستبعدة تماما ممن حوله ومن سابع المستحيلات، إلا أن هناك (حركات وفنون) للبخيل يستخدمها من باب التذاكي الأهبل، كأن يدعي أو يظهر الرغبة في دفع الحساب.. هذا إذا تأكد أن الفاتورة في يد غيره من الكرماء، أو أن يقوم من باب ذر الرماد في العيون مرة في السنة بدفع فاتورة مختارة مبلغها متواضع ليثبت كرمه الواهي البالي. من أندر ما نقل عن البخلاء أهل تلك المدينة «يقال إن من عاداتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم ويشكها في خيط، ويجمعون اللحم كله في قدر ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه، فإذا استوى جر كل منهم خيطه وأكل لحمه وتقاسموا المرق». ولا ننسى قصة ذاك البخيل الذي سألوه عن أشجع الناس، فقال: «من سمع وقع أضراس الناس على طعامه ولم تنشق مرارته»، والحمد لله رب العالمين.