ما يريده هاشم صالح من وصف أركون بأنه ابن رشد العصور الحديثة، هو الإشارة إلى تشابه الموقف بين ما حصل بالأمس في عهد ابن رشد، من هجوم على ما عرف آنذاك بالعلوم الدخيلة، ويراد بها علوم الأوائل أو علوم أهل اليونان، وما يحصل اليوم في عهد أركون، من هجوم كذلك على العلوم الدخيلة أيضا، ويراد بها العلوم والمنهجيات الحديثة أو علوم أهل الغرب. وكما دافع ابن رشد بالأمس عن علوم الحكمة والفلسفة، والحاجة إلى العمل بها في ساحة الفكر الإسلامي، دافع أركون اليوم كذلك عن مناهج العلوم الإنسانية، والحاجة إلى تطبيق المنهجيات الألسنية والتاريخية والسوسيولوجية في قراءة وتحليل وتفسير التراث الإسلامي. وما يقرب هذا التشابه في الموقف، ما أشار إليه أركون نفسه عند حديثه ودفاعه عن ابن رشد بين الأمس واليوم، وحسب قوله: لعب ابن رشد دورا ممتازا في عصره، عندما أدخل الفكر الإغريقي إلى ساحة الفكر الإسلامي، وبامكانه أن يلعب اليوم الدور نفسه في إجبار الفكر الإسلامي المنغلق داخل التبجيل الأيديولوجي واللاهوتي على التفاعل مع أفضل ما أنتجته الحداثة الأوروبية منذ عدة قرون. وهو الدور الذي يريد أركون أن ينهض به في ساحة المسلمين. بعد وضوح هذه الصورة، نرجع ونتساءل هل يمكن القول إن أركون هو ابن رشد العصور الحديثة؟ كنت أتمنى حقا، وأكون سعيدا بل وفي غاية السعادة، لو أن أركون هو ابن رشد العصور الحديثة، لكن واقع الحال، ومن كل الجهات ليس كذلك على الإطلاق، أين أركون وعالمه، وأين ابن رشد وعالمه، المسافة بينهما تطول ولا تقصر، والروح التي كانت تسري في ابن رشد وعقله وقلبه، ليست هي الروح قطعا التي كانت تسري في أركون وعقله وقلبه. ابن رشد كان فيلسوفا لكنه كان فقيها أيضا، وأركون يرى نفسه مؤرخا ولا يرى نفسه فيلسوفا، لكنه لم يكن فقيها بالتأكيد. ابن رشد كان قاضيا ثم قاضي القضاة في قرطبة، وأركون لم يكن قاضيا وليس قريبا من عالم القضاء، وابن رشد كان طبيبا عملا وتصنيفا، ومن الواضح أن أركون ليس طبيبا. والإشارة إلى هذه الفروقات على وضوحها، باعتبار أن علوم الفقه والطب والفلسفة كانت متصلة ومتداخلة في عصر ابن رشد، ويؤثر بعضها في بعض، فلا يمكن دراسة ابن رشد الفيلسوف، بعيدا أو منفصلا عن ابن رشد الفقيه، أو ابن رشد الطبيب. وأما الفارق الجوهري بينهما، أن ابن رشد كان مفكرا دينيا يتخذ من الدين مرجعية له، بخلاف أركون الذي كان مفكرا ومؤرخا لكنه لا يصدق عليه وصف المفكر الديني، ولا يرضى لنفسه بهذا الوصف على ما أظن، ولعله لا يحبذه، ولا يتناغم معه، لهذا فإن أركون ليس هو ابن رشد العصور الحديثة. [email protected]