في المقال السابق أوضحت تخبط المفكرين العرب خاصة الجابري وأركون في توصيف ونقد (العقل أو الفكر العربي)؛ فدراسة الجابري لم تكن أكثر من بحث عن فترة تاريخية تشابه عصرنا في تنوع تياراتها الفكرية ليجعلها نقطة تشكل العقل العربي حتى يكون مقنعاً للقارىء، فلم يجد أنسب من فترة التدوين (العصر العباسي)، أما عودته لعصر النبوة في كتابه (العقل السياسي العربي) فدليل على ما أقول. وأما السبب الأبرز في إخفاق دراسي العقل العربي فتكمن في إقصائهم لأكثر وأقدم مكوناته (الوثنية واليهودية والمسيحية). فإما أنهم لا يؤمنون بوجود العقل أو الفكر العربي، أو أنهم يجاملون المثقفين العرب (من غير المسلمين) على حساب العلم. على العكس من ذلك نجد المفكر الغربي التجريبي لا يجيد لغة المجاملات أو الانتقائية، فعلمه وكشوفاته وتجاربه طالت كل تراثه.. بالمعمل والتجربة لا بالإنشاء هز جدران المقدس وأسقط الفلسفة القديمة معه، فخرج القساوسة لتصفية الطبيب والمهندس والفلكي والفيزيائي والكيميائي، وعرض كشوفاتهم على السيف والنار لا العقل، فكان رد التجريبيين هو المزيد من الكشوفات.. بعدها حسمت الشعوب الأوروبية موقفها بالاصطفاف إلى جانب العلم المنتج، بعد أن تذوقت الرفاهية من أيدي العلماء، واكتشفت المرأة آدميتها بعد أن كانت تحبس في الغرف المعتمة كلما اعتراها الطمث حتى لا يضطر الرجل للاستحمام كلما لمس أو جلس على شيء لمسته.. تأمل معاناتها المريرة في كتابي (لماذا تعلمنت الفتاة الغربية) على النت. هنا، وهنا فقط تشكل العقل الغربي الحديث، وشيد الفلاسفة الجدد فلسفتهم على كشوفات التجريبي، كما ذكر الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور)، وهنا دفن التجريبيون منهج أرسطو وابن رشد الذي يحاول البعض إعادة رفاته.. فتح التجريبيون ملفات هي من صميم الفكر العربي وتراثه وعقله، لكن هذا العربي يتحاشى قراءة ما كشف الغربي من تراثه: تدوين المقدس والأخطاء العلمية حول المرأة وسطحية الأرض، وفقدان النص الأول ولغته الأولى وجهالة المترجم، ناهيك عن كارثة اكتشاف نسخ مخالفة، حتى اعترف أحد قساوسة السويد بوجود أكثر من 21 ألف خطأ فيه، ولذا قال سبينوزا: رجال الكتاب المقدس أكثر الناس إلحادا. اكتفى المفكر العربي بالحديث عن نيوتن وجاليلو وكوبرنيكوس وإنجازاتهم برومانسية، واستعار مصطلحات علمية أوهمتنا بقدرات ذهنية لا تطاول، حتى جزمنا أن رحلتنا نحو المجرات قادمة مادام هذا المفكر يقود سفن فضائنا، وبعد قرن أفقنا، فوجدنا أنفسنا في أماكننا أتعس حالا، عركنا أعيننا بعد طول رقاد، فإذا المفكر ما زال في مكانه يتحدث عن نيوتن ورفاقه، لنكتشف أنه مجرد حكواتي. أجل.. أكثر من قرن من التنظير بلا إنجازات.. إنه لم يجر تجربة واحدة.. لم يكتشف اكتشافا واحدا.. لم يقدم نظرية علمية واحدة.. خلقت ثيابه وهو يحدثنا عن بزات الفضاء، وبلي حذاؤه وهو يتحدث عن طريقة الهرولة على سطح القمر.. قرن صعدت خلاله اليابان البوذية والصين الكنفوشوسية والهند الهندوسية وماليزيا المسلمة لملاحقة الغرب علما، بينما ينشغل كبار المفكرين العرب بملاحقة منديل على رأس فتاة مسلمة، حتى وصلت الحال بأبرزهم (أدونيس وأركون) إلى مطاردته وراء البحار بتحريض السلطات الفرنسية على فصل الطبيبات والمهندسات والأستاذات والطالبات من أعمالهن بسبب منديل.. كيف تنهض أمة وعقليات كبار مفكريها بهذه البوليسية الوضيعة. أما حكاية تحول بعضهم إلى كهنوت وسدنة للخرافة، فتتمثل في موقف (أركون) وتلميذه من أحد أبرز علماء أوروبا التجريبيين، الذي أجهز ببحوثه التجريبية على بقايا المقدس، لكنه عندما قرأ القرآن الكريم، قدم شهادته وشهادة العلم الحديث بأنه وحي.. حفيد غاليلو وكوبرنيكوس هذا يقول: إنه لا يمكن لبشر أن يحصل على تلك المعلومات قبل 1400 عام. عندها انتفض أركون وتلميذه وكفرا بالعلم التجريبي وسخرا منه، بل لفقا الأكاذيب حوله!، فلا تسألوا عن سر تخلف وسقوط تلك الأنظمة العربية، فهم بنيتها التحتية وهي انعكاس لهم، أما حداثتهم فهي وهم آخر، وهي موضوع المقال التالي إن شاء الله.