عندما نستمتع بمذاق العسل قليل منا قد يدرك مقدار التعقيد أو بالأحرى المستوى العلمي الرفيع الذي يدخل في كل العمليات الحيوية التي تحكم مجتمع النحل وتصرفاته والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج هذه المادة الشهية الطعم. حتى العلم الحديث لم يتمكن حتى الآن من الإلمام بكل التفاصيل وإن كان قد تعرف في السنوات الأخيرة على جوانب خلابة أستعرض هنا أحدها وهو الفرق بين ملكة النحل والشغالات. تضم كل خلية نحل ملكة واحدة وعددا كبيرا من الشغالات قد يصل إلى 60 ألف شغالة. الملكة لها عمل أساسي واحد وهو إنتاج آلاف البيض الذي يخرج منه كل ذلك النحل اللازم لتكوين الخلية أي هي أم الجميع، بينما بناتها الشغالات يمارسن أعمالا كثيرة مختلفة منها جمع رحيق الأزهار وتحويله بواسطة الإنزيمات الموجودة في بطونهن إلى عسل يتم تخزينه في الخلية كمخزون غذائي يساعد على بقاء الخلية خلال فترة الشتاء التي يقل أو ينعدم خلالها رحيق الأزهار، ومنها أيضا بناء الخلية وحراستها وإنتاج الشمع الذي يحفظ فيه العسل وإطعام اليرقات ومنها قبل ذلك تغذية الملكة الأم والعناية بها. الملكة أكبر حجما بكثير من الشغالات وهي لا تستطيع أن تجمع الرحيق كما تفعل الشغالات ولا أن تقوم مثلهن بالرقصات العجيبة التي تدل رفاقهن على مكان وجود الأزهار. الشغالات يطرن لمسافات كبيرة خلال عملهن في جميع الرحيق بينما الملكة لا تطير إلا مرة واحدة وهي عذراء تجذب خلالها الذكور من خلايا مجاورة فيقومون بتلقيحها ثم تقوم بتأسيس خلية جديدة. من الناحية الأخرى الشغالات عقيمات ولا يقمن بإنتاج البيض. والشغالات لا يعشن إلا لحوالي 6 أسابيع بينما يمتد عمر الملكة إلى 3-5 سنوات. الغريب أن الملكة والشغالات يخرجن أساسا من نفس البيض أي من بيوض تحمل نسخا متطابقة تماما من المادة الوراثية فما الذي يجعل بيضة واحدة ملكة والآلاف الأخرى شغالات؟ الإجابة اتضحت مع تطور فرع جديد من علم الوراثة هو الإيبيجينتيكس (التخلق) الذي أصبح علما كبيرا بحد ذاته، وقد تحدثت عنه في مقال سابق. هذا العلم لا يعتمد على وجود اختلافات في تسلسل حروف المادة الوراثية (د ن ا DNA) ولكن إلى التعديلات المضافة (التشكيلات) على هذه الحروف بحيث يمكن أن يكون هناك نصان وراثيان متطابقان تماما في تسلسل الحروف ولكن يختلفان كثيرا في طريقة قراءتهما. العجيب هو أن هذه التعديلات تتأثر بعوامل خارجية مختلفة منها التغذية. وهكذا عندما تتحول البيضة التي كتب لها أن تكون ملكة إلى يرقة خلال عملية الفقس تقوم الشغالات (المرضعات) الموجودات في الخلية بتغذيتها بغذاء خاص هو غذاء ملكة النحل، الرويال جيلي، الذي يختلف عن العسل في كثافة محتواه من البروتين واحتوائه على مركبات خاصة تم التعرف على بعضها. وقد اكتشف العلماء أن هذا النوع من التغذية هو سبب حدوث التعديلات المضافة التي تؤدي إلى تحول البيضة إلى ملكة بدلا من شغالة. إذا الشغالات هن اللاتي يصنعن الملكة بما يقدمنه لها من غذاء. على عكس ذلك، تنتج الملكة على جسدها مواد يأكلها الشغالات حين يقمن بتنظيف الملكة فتصيبهن بالعقم، وهكذا يقضين حياتهن في جمع الرحيق بدلا من إنتاج البيض. الذكور، وهم أيضا أبناء الملكة، ينشؤون من بيض غير ملقح ولا يحملون إلا نسخة واحدة من المادة الوراثية بدلا من النسختين اللتين تحملهما أي من الملكة أو الشغالات. كما ينحصر دور الذكور في تلقيح الملكة حتى أنهم يصبحون بعد ذلك عالة على الخلية فيتم قتلهم أو طردهم بواسطة أخواتهم الشغالات. ماذا يحدث لو ماتت الملكة؟ في هذه الحالة يتم اختيار بيضة أو يرقة أخرى من اللواتي كان مقررا أن يصبحن شغالات ويتم تغذيتها لتصبح الملكة الجديدة. بل ربما يمكن لإحدى الشغالات أن تتحور لتصبح الملكة. حقا إنه لمجتمع غريب. وصدق الله تعالى في قوله: «وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» سورة النحل. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 133 مسافة ثم الرسالة