الشيخ الدكتور عبدالله المطلق عضو هيئة كبار العلماء له في قلوبنا مكان علي نحبه ونجله، أعلن بكل شجاعة واقتدار عن تراجعه عن فتوى كان أفتى بها سابقا تفيد بأنه ليس للزاني نسب، وأن فضيلته عندما سافر إلى الغرب والتقى بعدد من الإخوة المسلمين الصالحين ووقف على حالتهم قبل التوبة عاد ليغير من فتواه وهذا شأن العلماء الكبار. فقد حكى أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء أفتى مرة بفتوى ثم ظهر له أنه أخطأ في فتواه، فنادى في مصر القديمة والقاهرة على نفسه: من أفتى له ابن عبد السلام بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ. وفتوى النسب فتوى مهمة جداً في حياة الأمة، لذا أجدها مناسبة أن أدلي بدلوي في أقوال الفقهاء وأهل العلم في هذه المسألة خاصة وأنها متجددة وقائمة طالما أنما هناك نوازع شر لدى البعض. فقد تنزلق المرأة وتقع في الخطيئة وتحمل على غير ثمة عقد نكاح فإلى من ينسب الولد؟ ثم اتضح لهذه المرأة أن الرجل الذي حملت منه على جانب من المسؤولية وحسن التصرف حيث عقد نكاحه عليها بعد مضي شهرين من انعقاد الحمل وتدارك الأمر. ولكنه جاءه من يقول له إن هذا الولد لا يجوز أن ينسب إليك لأنه ولد زنا ولا يرثك ولا يخالط بناتك فليس هو محرم لهن. ولا يجوز لك أيضا أن تعقد نكاحك على هذه المرأة التي ارتكب معها هذه الخطيئة حتى تنتهي من عدتها من هذا الزنا وهي وضع الحمل مع أن الذي سمعه إنما هو على خلاف الأصل الذي عليه عامة أهل العلم وهو أن هذا الرجل لو عقد نكاحه على هذه المرأة التي زنا بها ثم جاءت بالولد لأدنى مدة الحمل وهي ستة أشهر فالولد ولده حقيقة وشرعا من غير ادعاء ويرثه شاء أم أبى وليس له أن ينفيه. فكيف إذا كان هذا الرجل إنما عقد نكاحه على هذه المرأة طواعية لإسدال الستر عليها وعليه ولاحتواء الخطيئة وصون العرض وحفظ نسب الولد من الضياع وصون الأسرة والمجتمع من اللغط والقيل والقال وسفه الفاحشة وساقط الكلام. ذكر القرطبي في أحكام القرآن (12/170) أن رجلا في عهد أبي بكر زنا بامرأة فزوجهما أبو بكر. وذكر ابن قدامة في المغني (6\602) أن مثل هذا وقع في عهد عمر بن الخطاب وحرص على تزويجهما. وسئل ابن العباس عمن زنا بامرأة ثم تزوجها فقال: «...يجوز..أرأيت لو سرق من كرم-أي عنب- ثم ابتاعه أكان يجوز؟». ونقل ابن قدامة في المغني (6/266) عن أبي حنيفة قوله: «لا أرى بأسا إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها مع حملها ويستر عليها والولد ولده». ولم يذكر أبو بكر ولا عمر ولا ابن عباس أن الولد ليس له أو أنه ولد زنى أو أن الرجل لا يجوز له أن يعقد نكاحه على هذه المرأة حتى تنتهي من عدتها وهي وضع الحمل. وكان ذلك على مشهد من الصحابة فكان إجماعا. وهذا هو مستند الأئمة الأربعة في عدم اشتراط العدة في عقد نكاح الرجل على المرأة التي زنا بها المرداوي في الإنصاف (8/132) وابن قدامة في المغني (6/602) ذلك لأن العدة إنما جعلت لمنع اختلاط الأنساب. وهذا الولد من ماء هذا الرجل حقيقة فلا معنى لفرض العدة عليها الكاساني البدائع (2/269) والبهوتي الكشاف (5/411)ولو جعلت العدة - وهي وضع الحمل - شرطا لصحة عقد النكاح على هذه المرأة لافتضح أمرها وشاعت الفاحشة وضاع نسب الولد، وكل هذا على خلاف الأصل الذي جاءت به عموميات الشريعة. والقول عند أبي حنيفة كما ذكره ابن عابدين في الحاشية فيمن وطئ امرأة بشبهة أن يعقد عليها وله أن يطأ في الحال لأنه هو صاحب العدة. وقد تزوج رجلان امرأتين في حفل زفاف واحد في عصر أبي حنيفة. فأخطأ النساء في إدخال امرأة هذا على الآخر ووطئ كل منهما زوجة الآخر. ثم عندما عرضت المسألة على أبي حنيفة أجاز لكل منهما –وقد رضي بمن وقع عليها الخطأ-أن يطلق عليها امرأته ويعقد على من دخل بها وله أن يطأ في الحال من غير عدة طلاق ولا عدة وطء الشبهة. ذلك لأن الطلاق وقع من غير مساس فلا عدة للزوج قبل الدخول كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها....). من جهة أخرى فإنه لا عدة لبراءة الرحم في حق الواطئ لأن الماء ماؤه فله أن يعقد عليها بلا استبراء فالذي عليه عامة أهل العلم في هذه المسألة أنه إذا انتفى شرط العدة تعين الرجوع في ثبوت النسب إلى أدنى مدة الحمل وهي ستة أشهر من إحداث الفراش وهو عقد النكاح. فلو جاءت المرأة بالولد لهذه المدة فأكثر ثبت نسبه من غير ادعاء. ثم إن الأصل في العلوق-أي انعقاد الحمل- الخفاء، إذ ليس هنا موطن الإشهاد ولا الرؤيا. وما كان الأصل فيه الخفاء يكفي فيه الاحتمال لثبوت النسب كما قال السرخسي في المبسوط (6\51). فيحتمل أن العلوق قد وقع قبل العقد. ويحتمل أيضا أنه وقع بعده، ويكفي هذا الاحتمال لثبوت النسب حملاً للمرأة على الصلاح، ولأن النسب يحتاط له ويشق لثبوته طريق من كل باب فيه معاني الإمكان. وقد يرد سؤال هنا وهو أن الناس اليوم بتطور أساليب الطب أصبحوا يعرفون ثبوت الحمل خلال أيام من انعقاده بالتحليل، وعلى هذا يجب أن يرتفع الاحتمال في ثبوت الحمل قبل أو بعد عقد النكاح، ولكن هذه التحاليل لا دور لها في إثبات أو نفي الأحكام الشرعية لكونها ليست بينة شرعية ولأنها يكتنفها الاحتمال ولا يثبت الزنا بالاحتمال. بخلاف ثبوت النسب فيحتاط له بالاحتمال ولأن هذه التحاليل حتى لو أدت إلى القطع واليقين بأن الحمل قد انعقد قبل عقد النكاح فإن هذا لا يغير شيئا في الحكم الشرعي وهو ثبوت النسب طالما أن الولد قد جاء لأدنى مدة الحمل وجاء على فراش وهو عقد النكاح. وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله : «الولد للفراش» في قصة جارية زمعة، مع علمه عليه الصلاة والسلام بأن الحمل الذي حملته الجارية إنما انعقد بماء رجل آخر غير سيدها فضلا عن أنه من سيدها على غير فراش ومع ذلك قضى بالولد لصاحب الفراش. ويمكن تحت هذه القاعدة العظيمة التي أرساها الرسول عليه الصلاة والسلام أمران عظيمان هما من مقاصد الشريعة الكبرى في بناء الأمة والمجتمع: الأول حفظ النسب لهذا الولد وهو حق له ولا ضلع له في وزر أبويه وهذه القاعدة من قواعد العدل الإلهي. والثاني الستر والصون والعفاف ودرء انتشار الفاحشة ومنع القيل والقال في الأنساب والأعراض، وقد ذكر ابن تيمية في الفتاوى (32/139) أن ولد الزنا عند أحمد يلحق بأبيه الزاني إذا استلحقه وأن عمر بن الخطاب قد ألحق أولاد الجاهلية ممن ولدوا على غير فراش-آبائهم يتوارثون فيما بينهم والنسب يثبت الميراث كما قال البهوتي في الكشاف (5/404)، فإذا جاز استلحاق الولد وقد جاء على غير ثمة فراش كما فعل عمر فمن باب أولى الاستلحاق على الفراش هذا على فرض أن الولد جاء لأقل من أدنى مدة الحمل فكيف وقد جاء الولد لأكثر من ذلك والشرط الذي عليه عامة أهل العلم في ثبوت النسب من غير ادعاء هو تحقيق أدنى مدة الحمل. كما أن عقد النكاح على المرأة إذا زنت ولو كانت حاملا من هذا الزنا لا يحرم عند الأئمة الأربعة كما ذكره قدامة في المغني (6/602) والطبري في جامع البيان(10/75)وابن كثير في التفسير الكبير (23/151) والقرطبي في الأحكام (12/170) والشنقيطي في أضواء البيان (6/72) وإنما وقع الخلاف في جواز وطئها فيما لو لم تكن موطوئته قبل العقد عليها. بمعنى أنه لو كان العاقد عليها بالنكاح هو صاحب الماء الذي حملت منه قبل العقد فلا يحرم وطؤها وفرض المسألة أن الذي عليه التحري في هذه البدائل هو الرجل وحده دون غيره من الناس لأن هذه المرأة في نظر الناس طاهرة وعفيفة وشريفة وانزلاقها إلى المعاصي لا ينزع عنها هذه الصفات إذ الحكم على الناس إنما يكون بالظاهر وما خفي فهذا بين العبد وربه. والأصل في إباحة عقد النكاح على المرأة إذا زنت بل لو كانت حاملا من هذا الزنا هو عموم قوله تعالى «وانكحوا الأيامى منكم ...» «وأحل لكم ما وراء ذلكم». والمرأة وإن زنت وكانت حاملا من هذا الزنا أو كانت حائلا فإنها تدخل في هذا العموم ولا تخرج منه إلا بدليل من الشرع وليس ثمة شيء من ذلك إذ الأصل في النساء جميعهن الطهر والصون والعفاف، ويستدل أيضا على جواز عقد النكاح على المرأة التي زنت سواء كانت حائلا أو حاملا من هذا الزنا بإباحة الرسول عليه الصلاة والسلام إبقاء الزوجة في العصمة وإن ارتكبت هذه المعصية كما جاء في حديث ابن العباس «إن امرأتي لا ترد يد لامس» الحديث إذ لو كان لا يجوز عقد النكاح على من زنت من النساء لانفسخ عقد نكاح الزوجة إذا زنت وهو باطل بالإجماع، ولذلك قال ابن عابدين في الحاشية (3\527)والمزني بها لا تحرم على زوجها وله وطؤها بلا استبراء، فلا عدة على الحامل من زنا أصلا فمن باب أولى ألا تعتد إذا كان الزاني هو نفسه العاقد عليها ويستدل أيضا على ذلك بمفهوم المخالفة في نهيه عليه الصلاة والسلام أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره فإذا كان الزرع زرعه أصلا كما هو حال هذا الرجل مع هذه المرأة في هذه المسألة جاز له أن يسقي زرعه بمائه في ملك يمين أو عقد نكاح ولقد كان النهي المذكور قد جاء في المسبيات إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص النسب. ولقد قضى الرسول عليه الصلاة والسلام في قصة وليدة زمعة أن الولد للفراش والحديث حجة في إلحاق الولد لصاحب الفراش وإن لم يكن صاحب الفراش هو أبوه حقيقة. فالشاهد أن المرأة إذا زنت وحملت من هذا الزنا ثم عقد عليها هذا الرجل الذي زنى بها –أو حتى لو عقد عليها غيره ليستر عليها –وأصبحت فراشا له ثم جاءت بالولد لأدنى مدة الحمل ستة أشهر فالولد ولده حقيقة وشرعا إن كان منه الماء وشرعا فقط إن كان من ماء غيره ويرثه ولا أثر للوطء في ثبوت النسب. ومن ثم لا يلزم معرفة انعقاد الحمل هل كان قبل العقد أو بعده. بل لا يشترط عند بعض الحنفية كما ذكره ابن عابدين في الحاشية (3\547) أدنى مدة الحمل إذ يكفي أن يأتي الولد على فراش قائم صحيح لعموم لفظ «الفراش..» في الحديث من غير قيد لأمد لمدة الحمل. ولإقرار الرسول عليه الصلاة والسلام لقول ابن زمعة: «أخي ولد على فراش أبي..» ولم يستفصل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أول الحمل متى كان وهل صادف فراشا أم لا وهل انعقد الحمل من الماء قبل العقد أو بعده، وكلها احتمالات واردة. فلم يستفصل عليه الصلاة والسلام عن كل هذه الاحتمالات بل أثبت النسب لمجرد وجود الفراش عند الوضع. وإنما اشترط الجمهور لثبوت النسب أدنى مدة الحمل لقوله تعالى: «.....وحمله وفصاله ثلاثون شهرا..» الآية مع قوله تعالى: «....والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» الآية. غير أن هذا القول إنما جاء في صيغة الخبر فلا تكون الآية في موضع الاستشهاد لتخصيص عموم الحديث. كما أن التخصيص قد تقدم على العموم لنزول الآية قبل الحديث، وهو خلاف الأصل الذي عليه عامة أهل العلم في وجوب تقدم العموم على الخصوص. والآية أيضا لم تأت إلا بأدنى مدة الحمل مع أن الأصل في أسباب ثبوت الحكم أن تشمل الآية أدنى وأكثر مدة الحمل لترتب ملابسات إثبات أو نفي الولد ويلحقه إثبات أو نفي الزنا على كل من الأمدين. ولذلك ذكر ابن عابدين في الحاشية (3\547) في هذا الباب أنه: «لو ولدت المرأة فاختلفا في المدة فقالت المرأة نكحتني من نصف حول. وادعى الرجل أقل من ذلك فالقول قولها بلا يمين والولد ابنه بشهادة الظاهر لها بالولادة من نكاح حملا لها على الصلاح». وقال ابن قدامة في المغني (5\206): «.. ولهذا لو ولدت امرأة وزوجها غائب عنها منذ عشرين عاما لحقه نسب الولد وإن لم يعرف له قدوم إليها ولا عرف لها خروج إليه من بلدها». فالشاهد أن الذي عليه عامة أهل العلم أن المرأة إذا زنت وحملت من هذا الزنا ثم عقد الرجل نكاحه عليها ثم جاءت بالولد لأدنى مدة الحمل فالولد ولده حقيقة وشرعا وإن كان الذي عقد عليها غير الذي زنى بها فالولد ولده شرعا وإن لم يكن حقيقة ويرثه غير أنه يلزمه أن يحدث رضاعا ليخالط بناته من غير هذه المرأة. فالشكر والتقدير للشيخ المطلق ولكافة علمائنا الأفاضل.