في مشهدنا الثقافي عادة ما يكون الاختلاف البريء في الأفكار ناتجا من عدم قدرة المختلفين للوصول لتعريف متفق عليه في موضوعات النقاش، وهذا مرجعه الاختلاف في الثقافة الذاتية للمتحاورين أو اختلاف الأهداف للمرجعيات التي ينتمون إليها، وفي ظل ذلك يكون تنظيم عملية الاختلاف مهمة ليست باليسيرة، فهي تندرج تحت مجال ثقافي وحقوقي يرتكز على الموقف من حرية الرأي وتفهم هذه الحرية والاختلافات الناتجة عنها واعتبارهما ضرورات للتقدم.. لا أسبابا للتفكك والتشرذم، وهذا يمكن تأسيسه في ظل وجود أساس قانوني ذي مرجعية ثقافية عميقة تساهم في جعل هذا الأساس القانوني ذا قوة ذاتية في فرض نفسه على الجميع. إن الوصول للمرجعية الثقافية العميقة التي تساهم في ترسيخ التصالح مع اختلاف الرأي لا يمكن إلا أن يكون من خلال مشترك ثقافي أساسي كالدين، على اعتبار أنه المصدر الأساسي في كافة تفاعلاتنا الفكرية والسجالية، كما أن الدين يعبر عن منظومة شاسعة من المبادئ والتأويلات والتاريخ وأشكال من الثقافة يصعب تهميشها أو التقليل من أثرها في الواقع وتحديثه أو زحزحة ما هو كائن فيه، فالدين يساهم وسيساهم في التغيير الثقافي، بوصفه خبرة أساسية لدى جميع السعوديين من كافة المستويات الثقافية والاجتماعية من ناحية، ومن ناحية أخرى هو المحفز للمبادرات الثقافية، سواء أكانت هذه المبادرات تعزيزا لفكرة قائمة ذات مرجعية دينية أو نقدا لها. والطريقة الأنسب للاستفادة من الاختلاف هو حمايته مع تحريكه إن كان ساكنا، وتنويعه إن كان متحركا، فمن خلاله يحدث الانتخاب الطبيعي للأفكار، فيبرز الأصلح والأنسب والأكثر جدوى، وللوصول لهذه الحالة الناضجة لا بد من إرساء القواعد القانونية المعتمدة على الفكر وإمكاناته دون فرض أو إجبار، ففي الاختلاف تولد الحالات المتطورة من الثقافة التي تتأثر بشكل حر ببعضها البعض من ناحية، ومع الواقع من ناحية أُخرى. الاختلاف لم يعد اليوم مجرد حدث ثقافي أو سجال فكري، بل هو ضرورة حضارية، وإذا لم يوجد لوجب إيجاده لمنع السكونية والبلادة التي قد تتهاوى فيها المجتمعات دون أن تدري، ولأهمية الاختلاف تقوم بعض الأحزاب السياسية في الغرب بتقييم نفسها ذاتيّا، إذا لم تجد لما تطرحه من برامج نقدا من الأحزاب والقوى الأُخرى؛ إيمانا منها بأهمية الاختلاف وإلحاحيته، وبأنه الوسيلة الوحيدة لإنجاح الحراك الإنساني بكافة صوره، وتطوير الأداء. وعلى مستوى الثقافة، فإن حماية الاختلاف وترسيخه يحافظ على عنفوان أفكار المجتمع، وتدريب النخب الثقافية فيه على التواضع والجدية، ومنع التزييف والانتهازية لدى بعض النخب، ومهما بدا للوهلة الأولى أن الاختلاف قد يسبب التوتر والتصادم، إلا أنه في العمق يحافظ على الثقافة من الركود والاحتكار اللذين يؤديان إلى انتشار التكرارية والمحدودية ومن ثم العجز، فالاختلاف وحرية إرادة الإنسان هما الأداتان الرئيسيتان لتعزيز احتمالات التقدم وخلق الحلول الحيوية للمشكلات من أي نوع وبأي مستوى. وليس من قبيل المجازفة أن نشير إلى أن أعداء الاختلاف هم بالضرورة أضعف المختلفين قدرة على توليد أفكار متقدمة وحضارية، فأهم خصائص الذكاء والفطنة الاحتفاء بالمختلف وتبادل السجال معه دون تخويف أو منع من أي نوع، والمختلف الأضعف يضع للأفكار حدودا وشروطا؛ لإيمانه التام بأن طاقته العقلية قد تصبح من التاريخ إذا سمح للمختلف الآخر بأن يمارس حرية إرادته الفكرية بصورة كاملة. وأن المجتمع، الذي تتسيد فيه تقاليد فكرية لا تحترم شرعية الاختلاف، يكون مهددا دائما بفقدان حيويته فيتحول من حالة الإنتاج الفكري، ومن ثم الحضاري، إلى حالة من الفقدان الدائم للهوية، حتى وإن حافظ على أفكار يعتقد أنها هويته، وهي في الحقيقة ليست سوى مخاوفه وعجزه.