في لحظة مهيبة كتمت فيها الأنفاس، تسمر الجميع أمام شاشات التلفاز لمشاهدة الحدث الأبرز، مندهشين، وغير مصدقين، مذهولين وساخرين تارة، منبهرين ومتحمسين تارة أخرى، وفي خضم المشاعر المركبة والمتضاربة تمكن المغامر النمسوي الشهير «فيليكس باومجارتنر» من دخول التاريخ وسجلات «جينيس» بعد تغلبه على المخاوف وقوانين الفيزياء التقليدية مسجلا أعلى قفزة «سقوط حر» في التاريخ من ارتفاع 39.045 متر مخترقا «الصوت» بسرعة وصلت 1.342 كم / ساعة قافزا من حافة طبقة «ستراتوسفير»، تلك الطبقة العالية التي مكنته أن يكون أول إنسان يعتلي إلى هذا الارتفاع ب «منطاد هواء» ويقفز من هذا العلو «المهيب ويخترق حاجز الصوت. ثلاثة أرقام قياسية حطمها «فيليكس» المعجزة دفعة واحدة وفشل في الرابعة إذ لم يتمكن أن يتخطى المدة الرقم القياسي السابق للسقوط الحر دون فتح المظلة، ليترك الرقم المسجل لأطول فترة لأستاذه ومستشار مشروع «ريد بل ستراتوس» الكولونيل «جو كيتنجر». ولكن بلا شك أدهش «فيليكس» العالم بأسرة وقدم بقفزته التاريخية معلومات قيمة ستساعد على استكشاف الفضاء وطبقات الغلاف الجوي الخارجي في المستقبل. كما ستدل العلماء على كيفية تغلب جسم الإنسان على الظروف الصعبة التي يواجهها على حافة الفضاء. أثناء تلك القفزة التاريخية كنت جالسا في مقهى بجدة، وكانت التعليقات التي تتعالى غريبة بعض الشيء، فهذا غير مصدق أن القفزة حقيقية إذ لا تتعدى «خديعة» بصرية من وجهة نظره، وذاك يؤكد بأن اللقطات مسجلة مسبقا في ستوديوهات هوليوود لخداع العالم والدليل من وجهة نظره أن بدلة فيليكس لم تتسخ ولم تحترق .. « نظرية المؤامرة » تطل برأسها من جديد « إنها الإمبريالية والليبرالية تريد أن تنتزع إعجاب الشباب العرب المسلمين »... هكذا صاح أحدهم في وجهنا، وأضاف: « إياكم والإعجاب بفيليكس فإنه من صنيعة الغرب بهدف التغرير بكم »..!، وآخر يؤكد على أن «فيليكس» سيموت لا محالة ويراهن بتقديم المشروبات المجانية لكل الحاضرين إذا لم يمت المغامر النمسوي...!. تلك التعليقات والغرائب لم تفسد دهشتنا وإعجابنا بتلك اللحظة التاريخية التي تعلم « الإنسان » كم هو: جبار ومميز وقادر على تحدي الصعاب متى ما أراد. كما تعلمنا أن «التخطيط» الدقيق الذي يستمر لسنوات هو الذي يؤدي إلى النجاح، بعد إرادة الله سبحانه وتعالى. وبعد وصول « فيليكس» إلى أرض مدينة «روزويل» بولاية نيوميكسكو الأمريكية رفع يديه معبرا عن النصر الكبير، انطلقت التعليقات الساخرة والنكت والمقارنات العجيبة والنظريات التي تؤكد وتنفي» .. أنجزت المهمة بنجاح كبير، وبقيت التساؤلات المطروحه بلا إجابة: متى ندرك أن العلم والعمل الجاد والتخطيط يصنع المعجزات ؟، ومتى نتعلم أن العالم ينجز ولا يهمه ما نقول؟، ومتى نؤمن أنه لا توجد مؤامرة من الآخرين بل نحن من نتآمر على أنفسنا؟، ومتى نتوقف عن السخرية من أنفسنا وجلد ذواتنا؟. ومتى نعيش زمن «فيليكس» ونخرج من زمن وذكريات « عباس بن فرناس» ؟. [email protected]