مهموم لطالما بحث عمن يستمع إليه، يبثني شكواه.. قلت له وأنا أحاوره كأنك القائل: «تجنوا لي ذنوبا ماجنتها/ يداي ولا أمرت ولا نهيت/ ولا والله ما أضمرت غدرا/ كما قد أضمروه ولا نويت/ إذا جرحت مساوئهم فؤادي/ صبرت على الإساءة وانطويت/ وعدت إليهم طلق المحيا/ كأني ما سمعت ولا رأيت. ولم أكن أميل إلى قول بن منقذ في ختام أبياته: «ويوم الحشر موعدنا فتبدو/ صحيفة ما جنوه وما جنيت»؛ لأن ذلك يتنافى مع معنى الصفح والعفو القائم على طي صفحة الأسباب والعقاب، وأي متعة لك حين يعذب الله أحبابك بتشفيك؟! بل ليته قال: ويوم الحشر عند الله يعفو/ لنا ما قد جنوه وما جنيت، يا صاحبي،.. إذا ما ألفيت خلة في امرئ له في قلبك حظوة فقارن بين عيبه ومزيته: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها/ كفى المرء نبلا أن تعد معائبه.. ولا بد أن تدرك أن بني رحمك فيهم خير تجد براده حين تقبل عليهم بوجه راض ونفس طيبة، فإن للعفو رائحة طيبة ولذة لا توصف، ولذة العفو بحمد العاقبة خير من لذة التشفي بذم الندم، واعلم رعاك الله أن النفس البشرية معرضة بين وقت وآخر للتحولات، فقد يعرض للمرء من صروف الدهر ما يصرفه عن الصواب، وقد تتأزم النفس بمتغيرات عارضة، فلا نركن إلى العوارض والصوادف، بل نتجاوزها، قال وهو يحاورني: وقع علي خطأ، قلت: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد/ جاءت محاسنه بألف شفيع، قال: ولكنه خطأ جائر، قلت: الرياح لا تحرك الجبال لكنها تحرك الرمال تعبث بها كيف تشاء، فكن جبلا صامدا، قال: ومن يظهر الحق، قلت: ربك حين يرى عفوك، قال: متى؟ قلت: اعلم أن همس الحقيقة أعلى من ذبذبات الزمن، ولا بد أن يصل صوت النهار، قال: ألا أطلب محاسبتهم.. قلت: لئن تندم على العفو مرة خير لك من أن تندم ألف مرة على المحاسبة، واعلم يا صاح أن أعظم ثأر تحققه في حياتك دون تجريح أن تعفو عمن ظلمك، قال: ولكني غاضب، قلت: ليست الأحلام في حين الرضا/ إنما الأحلام في حين الغضب، قال: كيف أرتاح، قلت: لما عفوت ولم أحقد على أحد/ أرحت نفسي من هم العداوات، قال: ذلك يحتاج إلى عقل كبير، قلت «أعقل الناس أعذرهم للناس»، قال: وماذا نفعل بالأخطاء، قلت: لم ينج أحد من الخطأ لا أنت ولا هم، قال: كيف يزين ما فات، قلت: التسامح والصفح رداءان يزينان شخصية العاقل فلا تنزعهما. قال: ولكن كيف أبقى مظلوما، قلت: لئن تبق مظلوما أعواما خير لك من أن تبقى ظالما يوما واحدا، فإن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته واقعة، هذا خلاصة ما ذكرته لأحد الأصدقاء عندما أسر إلي بتظلمه من ذوي رحمه، ما أوجد قطيعة بينهم، ووالله لقد أفدت من الحوار معه، حيث عفوت عن كل من ظلم وأذى محتسبا عند الله ثمار العفو، داعيا الله أن يقي الظالم شر ظلمه وأن يرده للصواب، وقد كبرت لدي همة التسامح والصفح أكثر مما كان. [email protected]