ما عاد البحر متنفسا للناس ومرفأ لهم من ضيق الشقق وتلوث الشوارع.. لم يعد الساحل مكانا أثيرا للمتنزهين فقد انتقلت عدوى التلوث من ضجيج المدن إلى أمواج البحر حتى أن هواة الغوص باتوا يفكرون ألف مرة قبل التوغل إلى الأعماق الملوثة أو السامة إن شئت القول.. لم يعد البحر يسر الناظرين، إذ كشفت دراسة أعدتها الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة أن عملية تأهيل شواطئ البحر الأحمر مثلا لابد أن تركز في المرحلة الأولى على تصحيح الوضع الراهن، وخصوصا أن الشواطئ شهدت خلال السنوات الماضية العديد من أوجه التلوث الذي هدد بدوره الأحياء البحرية والشعاب المرجانية. «عكاظ» وضعت قضية التلوث في الشواطئ على طاولة المختصين والخبراء البيئيين للوصول إلى توصيات من شأنها المحافظة على بيئة الشواطئ وحماية الثروة البحرية والشعاب المرجانية. ويقول مساعد الرئيس العام للأرصاد وحماية البيئة لشؤون البيئة والتنمية المستدامة الدكتور سمير غازي، إن الأرصاد وحماية البيئة ممثلة في إدارة المناطق الساحلية أنهت في وقت سابق إجراء دراسة حديثة عن تلوث الشواطئ لاسيما في جدة وتناولت الدراسة أولويات الرئاسة في كيفية المحافظة على الشواطئ، ومنع تلوثها، والمشاريع المقترح تنفيذها للحفاظ عليها. ويلفت د. غازي إلى أن رئاسة الأرصاد وحماية البيئة قامت بدراسة تحليلية شاملة لمحافظة جدة بالتعاون مع المكاتب الاستشارية المتخصصة في مجال البيئة، وتضمنت الدراسة وصف البيئة المحيطة وتحليل المشاكل البيئية والحلول المقترحة، كما تضمنت خطة الرصد والمتابعة المقترحة لجودة الهواء والمياه الساحلية مع تقارير الحالة البيئية المستقبلية، كما قامت الرئاسة بالاجتماع مع ممثلين عن أمانة محافظة جدة، ووحدة أعمال جدة بشركة المياه الوطنية، وتمت مناقشة الموضوع من جميع جوانبه والاطلاع على مسببات التدهور البيئي للشواطئ واستعرض اللقاء المشاريع المقترحة، وخلصت إلى الموافقة على مسببات التدهور البيئي والموافقة على المشاريع المقدمة من الجهات. رصد بقع الزيت يستطرد الدكتور غازي أن المشاريع الخاصة بأعمال إزالة العكارة والرسوبيات هي دراسة خصائص الموقع والجدوى والتصميم لأعمال تنظيف وإعادة تأهيل مناطق شواطئ جدة الثلاث، ودراسة الخصائص وتصميم أعمال إعادة التأهيل والجدوى لمنطقة حوض محطة الخمرة مع تصميم أنبوب الصرف إلى عمق البحر لمحطة الخمرة، تصميم تعديلات بحيرات الشاطئ الشمالي لتحسين الخلط دراسات لتقيد البدائل طويلة المدى لبحيرة رعاية الشباب وبحيرة الأربعين. وأضاف، «أما أعمال المراقبة والحماية فهناك برنامج شامل ومتداخل لمراقبة الشواطئ والمشاريع هي تحصيل عينات مياه وترسبات الشواطئ تحصيل وتحليل عينات المؤشرات الحيوية، والمراقبة الآنية لمخرجات تصريف (مراقبة نهاية أنبوب الصرف) وفي المياه المستلمة للصرف، وإنشاء مختبر متكامل لبيئة الشواطئ (تحليل مياه، تربه، هواء، كائنات بحرية)، رصد بقع الزيت بالاستشعار عن بعد، ورصد جودة المياه بالاستشعار عن بعد، نظام رصد ساحلي لتحصيل البيانات البحرية، نموذج رياضي للتوقع بحركة الملوثات في المياه وجودتها، موقع على الإنترنت لعرض المعلومات وتداخلها، الشرطة البيئية». ونوه الدكتور غازي الى أن أعمال إعادة استزراع الشعب المرجانية ونباتات الشورى البحرية تتضمن استزراع الشعب المرجانية ببعض المناطق المتضررة بالصرف الصحي واستزراع نبات الشورى (المانجروف)، أما أعمال التوعية البيئية فتشمل مشاريع تتمثل في تنفيذ البرامج الإعلامية للمحافظة على الكورنيش في وسائل الإعلام ولوحات في الطرق والميادين، تنفيذ البرامج التوعوية بالاشتراك مع طلاب وطالبات المدارس ومؤسسات المجتمع المدني. مشاريع ضد المرجانية الخبير البيئي المعروف الدكتور عبدالرحمن حمزة كماس قال إنه منذ أكثر من 30 سنة وبيئة الشواطئ تواجه تحديات كثيرة أبرزها الردم والحفر والتجريف، الأمر الذي أدى إلى تدمير قواعدها الأساسية لتوالد وتربية الثروة السمكية وجميع الأحياء البحرية، إضافة إلى طمس ودفن الشعب المرجانية ونباتات الشورى، وتأثير ذلك كما هو معروف سلبي ومباشر على البيئة ولا يمكن تعويضه على مر السنين. ولفت د. كماس إلى أنه أجريت دراسات علمية على شواطئ جدة من قبل كلية علوم البحار بجامعة الملك عبدالعزيز، وأيضا من الرئاسة العامة للأرصاد ثم من الهيئة الإقليمية لحماية بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، مشيرا إلى أنه رغم وجود أنظمة وقوانين محلية وإقليمية ودولية تنص على حماية البيئة البحرية إلا أن هناك جهات أخرى تمنح التراخيص لإقامة مشاريع ترفيهية وسياحية دون الرجوع إلى الجهات المختصة. د. كماس دعا إلى تنسيق متكامل بين الجهات المعنية بالأمر مثل البلدية والثروة المعدنية والأرصاد والهيئة الوطنية للحياة الفطرية وبيئة البحر الأحمر وخليج عدن وغيرها من الجهات ذات العلاقة حتى لا يتفاقم الأمر وتحاسبنا الأجيال القادمة على إهمالنا لحقوقهم، وهناك مثل صيني يقول «نحن لم نرث الأرض من أجدادنا ولكننا استعرناها من أحفادنا». سواحل عذراء وحول أهم التحديات التي تواجه بيئة البحر الأحمر مثلا، قال الأمين العام لهيئة البيئة وخليج عدن البروفيسور زياد حمزة أبوغرارة على الرغم من أن البحر الأحمر لا يزال يحتفظ بقدر كبير من نظافته حيث يعتبر واحدا من أنظف بحار العالم ولا يزال هناك آلاف الكيلومترات من السواحل العذراء على الجانبين الشرقي والغربي، إلا أن هناك زيادة ملحوظة في الضغوط على بيئة البحر الأحمر في السنوات الأخيرة، مما يتطلب تعزيز جهود المحافظة والتقليل من هذه الضغوط والتي من أهمها الصيد المفرط أو غير المشروع للموارد البحرية واستنزاف للمخزون السمكي، وإلقاء المخلفات وعلى وجه الخصوص مياه الصرف الصحي غير المعالج أو المعالج جزئيا في البيئة البحرية ومخلفات السفن من مياه عادمة ومياه ملوثة بالزيت ورمي الحيوانات النافقة والبضائع التالفة من على ظهر السفن إلى البحر مباشرة أثناء الإبحار. وأشار إلى أن الزيادة المطردة في كثافة حركة السفن التي تحمل مواد كيميائية سامة أو خطرة أو نفط تزيد من خطر حوادث انسكاب هذه المواد في البيئة البحرية، حيث تعد ممرا هاما للملاحة الدولية تشهد فيه حركة السفن زيادة مضطردة، ويمر فيه حاليا أكثر من 18 ألف سفينة وناقلة في العام الواحد، ما يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية بيئته البحرية من أخطار التلوث الناجم عن السفن، وتعتبر الكائنات الحية الدخيلة التي قد تصل إلى بيئتنا البحرية من خلال تفريغ مياه التوازن من أهم التحديات نظرا للتأثيرات البيئية والاقتصادية الكبيرة التي تحدثها تلك الكائنات، إذا ما علمنا أن أكثر من 700 ألف نوع يعبر محيطات العالم كل عام، حيث يفتقر الإقليم إلى توفر مرافق كافية لاستقبال مياه التوازن من السفن العابرة التي تحتوي على مثل هذه الكائنات. الصيد الجائر للأسماك وأفاد د. أبوغرارة أنه يوجد في البحر الأحمر أكثر من 1200 نوع من الأسماك، وبالطبع هذه الأنواع ليست كلها تجارية، حيث تشكل الأنواع التجاريه حوالي 70-80 نوعا فقط وهي التي تستهدفها أنشطة الصيد، وبالتالي فنحن نتحدث في الأصح عن مخزونات لأنواع مختلفة حيث أن مخزون كل نوع يختلف عن الآخر من حيث طبيعته البيولوجية والإيكولوجية وتأثره بأنشطة الصيد. وفي دراسة دولية حديثة شاركت فيها الهيئة تم تقييم الوضع البيئي في كل البحار الإقليمية في العالم، وأوضحت هذه الدراسة بأن حوالي 30-40% من مخزونات أنواع الأسماك بالبحر الأحمر تعاني من الاستغلال المفرط أو الصيد الجائر، وقد يكون هذا الوضع أقل سوءا بالمقارنة مع البحار الإقليمية الأخرى في العالم، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت ضغوطا متزايدة على المخزون السمكي في الإقليم نتيجة لتزايد حركة الصيد وتزايد أعمال التوسع العمراني والأنشطة الاقتصادية والسياحية التي أقيمت على المناطق الساحلية في عدد من دول الإقليم، وأيضا الضغوط على أشجار المانجروف (الشورى) وتحويلها إلى مزارع للأسماك والروبيان، مما يتطلب بذل المزيد من الجهد لتحسين قدرات إدارة المصايد في الإقليم للتحكم في أنشطة الصيد والتخلص من كل مظاهر الاستغلال المفرط أو غير القانوني، أو التأثير السلبي، لأنشطة الصيد والضغوط البيئية الأخرى. بنادق تحت الماء أبوغرارة دعا إلى بذل المزيد من الجهد للمحافظة على بيئة البحر الأحمر الذي لا يزال يعتبر من أجمل وأنظف بحار العالم، إلا أنه في نفس الوقت تتزايد الضغوط عليه مما يتطلب تكاتف الجهود والعمل الجاد للتقليل من هذه الضغوط، ومن بين الإجراءات التي يمكن تبنيها تفعيل منع أساليب الصيد المفرط أو غير المشروع مثل استخدام بنادق الصيد تحت الماء نظرا لما يحدثه من تدمير للشعاب والأحياء البحرية، والعمل على إيقاف تصريف مياه الصرف الصحي والصرف الصناعي غير المعالج في البيئة البحرية وتبني برامج مستدامة للاستفادة منها وإعادة استخدامها في الأغراض المناسبة، كذلك منع صيد أسماك القرش التي تشهد استنزافا كبيرا، وتشديد الرقابة على تنفيذ ذلك، حيث سيترتب على تناقص أعدادها اختلال كامل في النظام الإيكولوجي للبيئة البحرية في الإقليم، والتوسع في إعلان محميات بحرية وتفعيل إدارتها كمناطق محمية، إضافة إلى تطبيق نهج التقييم البيئي للمشاريع والأنشطة السياحية والتنموية التي تقام في المناطق الساحلية، والتطبيق الفعلي نهج رقابة دولة الميناء في الموانئ، وفق المعايير الدولية لحماية حركة الملاحة البحرية وصحة البيئة والإنسان. 600 مصب خطر اعتبر البروفيسور علي عدنان عشقي أستاذ البيئة في كلية علوم البحار في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة أن هناك تحديات عديدة تواجه بيئة شواطئ العروس أهمها التلوث عن طريق الحفر والردم والتجريف وكلها تؤدي في الأخير إلى تدمير الشعاب المرجانية التي تعتبر الشبكة الغذائية الرئيسة للأحياء البحرية في البحر الأحمر. وأضاف «كل أشكال التلوث البحري أدى إلى انحدار في المخزون السمكي بجانب الصيد الجائر، كما لا يفوت الإشارة إلى خطورة التلوث بمياه الصرف الصحي وخصوصا أن هناك 600 مصب للصرف الصحي تفرغ حمولتها إلى البحر الأحمر وفقا لأمانة جدة». وأشار د. عشقي إلى أن الدراسات البيئية التي تجري بشكل مستمر للأسف يكون طابعها نظري ولا يتم تفعيل توصياتها، فكثير من هذه الدراسات تخرج بتوصيات هامة ولكنها لا ترى النور في التنفيذ، ومن هذا المنطلق فإن تفعيل القانون البيئي الصادر عن مجلس الوزراء أمر ضروري يعزز الأمن البيئي لهذه الشواطئ، كما يعيد توازن الأحياء البحرية إليها، بالإضافة إلى ذلك تطبيق أقصى العقوبات في حق كل من يتسبب في تلوث الشواطئ أو يعتدي على منظومتها. د. عشقي أكد أن شاطئ البحر الأحمر يعتبر أفضل البحار في العالم من حيث تكويناته المرجانية، وتنوعه الحيوي الذي لا يوجد له مثيل حتى في المحيطات الاستوائية، وأي إخلال في هذه المنظومة البيئية ينعكس على الأجيال المقبلة انطلاقا من أن البيئة ولاسيما البيئة البحرية ليست ملكنا لوحدنا، بل هي للأجيال القادمة، ويجب أن نتركها لهم جميلة ونظيفة.