من المسائل المثيرة للجدل في السنوات الأخيرة، مسألة الاختلاط بين الجنسين، فلا يكاد يخبو النزاع فيها إلا ويشتعل من جديد، وقد صدرت في ذلك العديد من الدراسات والبيانات والردود، بعضهم يجيز فيها الاختلاط وبعضهم يحرمه، وكل منهم يحشد الأدلة التي تنصر رأيه، ويقصر باعه عن إبراز أدلة المخالفين ومناقشتها نقاشا علميا، والعجيب أنك عندما تقرأ أدلة الممانعين وحججهم، تميل إلى أن هذا المنع هو الصواب، وتستغرب ممن يجيز ذلك، وإذا قرأت أدلة المجيزين ترى أن هذا هو الصواب، وتستغرب ممن يمنع ذلك. ولذا، فإن الحاجة ماسة إلى دراسةٍ علمية موسعة في بيان حكم الاختلاط، يبحر فيها الباحث بحيادية كاملة، فلا يبدأ مشروعه مستندا إلى خلفية ذهنية سابقة بجواز الاختلاط أو منعه، ومن ثم هو يعمل فقط على جمع الأدلة التي تنصر رأيه، والعمل على حجب أو إضعاف أدلة المخالف. بل عليه أن يكون موضوعيا، عن طريق استيفاء جميع النصوص الدالة على المنع والنصوص الدالة على الجواز، من الكتاب والسنة وأقوال السلف، ويطرح منها ما كان ضعيفا من حيث الثبوت، أو ضعيفا من حيث الدلالة. ثم ينظر إلى ما تضارب من هذه الأدلة الصحيحة الصريحة، فيجمع بينها إن أمكن، كأن يحمل دليل التحريم على ما إذا رافق الاختلاط أمر محرم كالخلوة أو الملامسة أو الفتنة، ويحمل دليل الجواز على غير ذلك. فإن لم يمكن الجمع قام بترجيح أحد الدليلين على الآخر، وطرق الترجيح كثيرة، كأن يكون أحد الدليلين أصح من الآخر وإن كان كلاهما صحيحا، أو يكون أحد الدليلين أظهر من حيث الدلالة. وإن لم يمكن، نظر إلى تاريخ النصوص، فقد يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا. ثم هناك مسألة جديرة بالملاحظة وهي: النظر إلى الدليل الذي يتضمن النهي، هل هو نهي يفيد التحريم أم الكراهة، فقد يدل الدليل على الكراهة فيحمله الباحث على التحريم، وهذا من الخطأ. وكذا إذا كان الدليل يتضمن أمرا، فينظر: هل يدل الأمر على الاستحباب أم الوجوب. ويستعين في كل ذلك بكلام المفسرين وشراح الأحاديث والفقهاء والأصوليين. ومن ثم يخرج الباحث بدراسة موسعة مفيدة، يجتهد في بيان حكم الشرع في ذلك، بتجرد كامل، وبعيدا عن أي نزعة.