بقي شيوخ العشائر في دير الزور القريبة من الحدود السورية العراقية، صامتين حيال الأحداث الجارية في سورية في النصف الأول من عمر الثورة، في حين أن الحراك الشعبي «المستقل» عن الانتماءات العشائرية انضم للثورة منذ البدء. وهذا الموقف الصامت سبب ألما داخليا للشيوخ الذين اعتادوا على أن يكونوا أساس الموقف الشعبي طوال المراحل التاريخية الماضية، لكن الخوف من تنكيل النظام وكذلك جر المنطقة إلى حرب أهلية والنيل من هيبتهم، جعل من هؤلاء المشايخ يلتزم الصمت، والحديث عن أنهم مع الثورة في الأروقة الخاصة فقط. وبعد محاصرة الجيش السوري لمدينة دير الزور العشائرية، ومهاجمته بعض المناطق المحيطة التي تسكنها عشائر عريقة مثل العقيدات والبوسرايا والقرعان والطائيين، بات من الضرورة بمكان أن يتخذ موقفا أخلاقيا مما تتعرض له المنطقة. وكانت المفاجأة لعشائر دير الزور انشقاق الشيخ نواف عبود الفارس الجراح السفير السوري في العراق، ابن شيخ عشيرة الدميم في مدينة البوكمال، إذ شعرت العشائر بالإحراج أن رجل السلطة وصديق النظام الحميم أعلن الخروج عليهم، في حين أن بقية الشيوخ مازالوا صامتين، كما أثار انشقاق نواف التنافس بين العشائر في ظل تنامي الشعور والثقة بزوال النظام، لذا فإن كل شيخ عشيرة بات ينظر إلى سورية ما بعد الأسد ومحاولة إعادة تموضعه في الخريطة السياسية المقبلة، بعد أن عمل النظام في أدبياته الحزبية البعثية على تهميش دور القبيلة والعشيرة كفلسفة اجتماعية، وحصرها في تسييرها كما يرى. اليوم بعد انحسار سيطرة النظام على الكثير من المدن السورية وخصوصا في دير الزور، ظهر الحديث مرة جديدة عن دور العشائر في المرحلة الحالية وفي المستقبل، وهذا الدور يرتكز على نقطتين رئيستين: الأولى: مسألة إدارة شؤون المناطق التي غادرتها قوات النظام، إذ تلعب العشيرة من خلال قوتها التنظيمية وعلاقتها الاجتماعية وتأثيرها الأخلاقي في المجتمع، دورا بارزا في ضبط الأوضاع الأمنية في المرحلة القائمة، وفي حال سقوط نظام الأسد، الأمر الذي يحول دون مناوشات أهلية. والنقطة الثانية: تتعلق بطبيعة انتشار العشيرة من الناحية الجغرافية، بموازاة حركة النزوح الجماعي للمدن بعد تدمير جيش النظام لها، فهذه العلاقة تحتاج إلى المزيد من التوضيح والتحليل ودورها في تثبيت الاستقرار. فالمعروف أن العشائر السورية معظمها يسكن الأرياف ذات الطبيعة الزراعية، هنا لعبت العشيرة دورا إنسانيا وأخلاقيا في استيعاب حركة النزوح من المدينة، الأمر الذي كشف أهمية استقرار الريف بوجود المدن المدمرة، هذه الثنائية (تدمير المدن- هدوء الريف) أعطى العشيرة السورية دورا حيويا وفاعلا في الحيلولة دون تشتت أهالي المدن ووقوع المجازر في حال بقائهم في المدن، وأخيرا يظهر السؤال: كيف تستغل المعارضة مثل هذه الحالات في مرحلة ما قبل الأسد، وسط تصاعد المطالبات الدولية بتشكيل حكومة انتقالية؟ إذا على المجلس الوطني باعتباره المظلة الأكبر للمعارضة أن يستوعب طبيعة الواقع الاجتماعي لخلق واقع سياسي مستقر يحظى بإجماع الغرب.