بعد مضي أكثر من عام ونصف العام تقريبا على الأزمة السورية، مازال البعض يتحدث عن العنف والعنف المضاد، أو ما يرغب البعض بتسميته الحرب الأهلية، وسط هذا الكم الهائل من الإجرام بحق الشعب السوري. ويؤكد البعض أنه ليس من المقبول هذه الأعمال العنفية المضادة من قبل المعارضة، متناسين بذلك جرائم النظام السوري الذي لم يتورع عن تدمير البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وحتى إن كان الحديث عن الحرب الأهلية الآن ضربا من الجنون، إلا أن النظام في النهاية هو المسؤول عن هذا الجنون. النخب السياسية وخطر الحرب الأهلية يقول التاريخ والتجربة الإنسانية إنه يحق للشعب ما لا يحق لغيره، وأصبح هذا الاعتقاد راسخا في الأنا الجمعي الواعي واللاواعي للبشرية، بل أكثر من ذلك، حيث بات عنوان الدساتير الحديثة. فلا يمكن لوم الجماهير على أي مطلب تنادي به، فلها الحق أن تطلب رحيل قادتها أو محاكمتهم وقد تصل إلى درجة المطالبة بإعدامهم. وقد سمعنا الكثير من الهتافات والشعارات وحتى الأهازيج خلال جميع المظاهرات في دول الربيع العربي، وفي الثورة السورية خصوصا. كونها الأطول والأكثر مرارة ودموية، وللأسف فكلما طالت الأزمة في سورية زاد رصيد الدم والمرارة، وبالتالي حالة الإحباط وانسداد الأفق. وهذا بات يلقي بظلال كئيبة ويائسة في بعض الأحيان لدى الكثير من السوريين في عموم الأرض السورية، وقد بتنا نرى انعكاس هذه الحالة من الإحباط بدعوات متشددة وأحيانا متطرفة ومطالبات من كل الألوان في غالبها دعوات للعنف يحمل صبغة ثأرية انتقامية، وهذا يمكن تفسيره سكيولوجيا بأنه حالة من حالات الدفاع النفسي التي قد يلجأ لها العقل البشري، بشكل لا واع غالبا كل ذلك بهدف الوصول إلى شكل من أشكال التوازن النفسي والذي يتشكل في حالة الأزمات، وخصوصا تلك التي تهدد وجود الكائن البشري، وهذا التوازن الذي يمكن أن نسميه توازن الأزمة إذا صح التعبير؛ أي أنه مهما بدا يجب أن لا نتصور أنه أصبح راسخا ويعبر عن تغير نهائي في نفس الكائن. وبمعنى آخر ليس كل من يطلق دعوات متطرفة أو دموية أحيانا يعني ذلك بالتأكيد. وهذا أمر بات يعرفه علماء النفس معرفة غير ظنية. فهذا يتقاطع مع ما أطلق عليه علماء النفس مسمى غرائز الموت والتي تم رصدها والكتابة عنها أثناء الحرب العالمية الثانية. ولكي أكون أكثر تحديدا ليس كل من ينادي بالقتل والانتقام من الشعب السوري المكلوم فعلا يعني ذلك بالمعنى السكيولوجي للكلمة. فهو إذا في أغلبه حالة دفاع نفسي أمام وحشية يجد نفسه عاجزا أمامها في الكثير من الأحيان. طبعا أصبحنا وبناء على ما سبق نفهم ونتفهم لماذا تلجأ الجماهير للمناداة بما تنادي به مهما بدا للوهلة الأولى قاسيا. ولكن ما ينذر بالخطر حقا أن يصل هذا الخطاب العنيف إلى عقول الفئة المثقفة وإلى خطابها السياسي. وهذا ما بتنا نلحظه سواء في بعض الكتابات أو من خلال الظهور على الفضائيات. إن ذلك عندما يحدث سيكون هو الجنون بعينه والذي ينذر بشر ما بعده شر. عندما تتماهى الطبقة السياسية المثقفة مع غرائز الموت والتي افترض علماء النفس أنهم بمنأى منها لما يمتلكون من عمق وتحليل لماهية ذواتهم، وما قد يعتمل فيها من نزوات ونزعات لتصعد إلى ساحة الوعي فتتم عقلنتها هناك.إن الطبقة السياسية المثقفة في ظروف الأزمات هي التي تكون صمام الأمان، وصوت العقل الذي يمنع الأمور من الانفجار على شكل حالة من الفوضى الدموية التي لا تبقي ولا تذر؛ فالجماهير المجروحة والمهددة في بقائها أحوج ما تكون إلى العقلاء وذوي الحكمة لكي يعقلنوا نداء العنف والدم الذي يتردد صداه من أعماق النفوس المكلومة والمحبطة. ليذكرها بماضي الإنسانية الدموي المدفون هناك في أعماق الذاكرة البشرية قبل عصر الحضارة وسيادة الدولة.