لن آتي بجديد لو قلت عن رمضان أنه ربيع العام وصفوة الشهور وبهجة الزمان ، فذلك معلوم بداهة دلت عليه نصوص الوحي ووقائع الدهر وأحوال الناس، إقبالا وعبادة والتزاما، إلا أن مواسم الطاعات والنفحات يفضل بعضها بعضا، ويسمو بعض الزمان على بعض، وقد تقرر بالاستقراء عند العلماء أن الأوقات الفاضلة والأزمان المباركة أواخرها أفضل من أوائلها، فيوم الجمعة أعظم أيام الأسبوع، لكن أبرك ساعاته وأرجاه قبولا للدعاء فيه آخر ساعة منه، وأفضل الليل ثلثه الآخر، والسحر وهو السدس الآخر من الليل منوه بشأنه. وهكذا فليس رمضان ببدع في ذلك فرمضان موسم إلا أن عشره الأخيرة هي صفوة الشهر، والعبرة بالخواتيم وهذه العشر خاتمة الشهر ودرته، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها، فكان يشوب العشرين بمنام وقيام، وأما هذه الليالي فيحييها كلها صلاة وتلاوة وذكرا، وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) رواه مسلم. ومن المؤسف جدا غفلتنا عن غنائم هذا الشهر وانشغالنا عن فضائل هذه الليالي، ولا أدل على ذلك من زحام الأسواق والطرق بالغادين الرائحين في تضييع لزهرة من العمر إن ذهبت قد تعود أو لا. بلغ بنا التفريط إلى حد تأجيلنا التبضع والتسوق وشواغل الدنيا إلى هذه الليالي، فبدل أن تفرغ الليالي لما هي له من العبادة، يتفرغ ناس فيها للتسوق، فذهبت معاني الروحانية والتماس ليلة القدر من حياة الكثيرين أو كادت، وإذا كان احتباس النفس بلزوم المعتكف والمكث فيه للعبادة شاقا على البعض فلا أقل من حبس النفس عن الأسواق وزحام الطرقات في هزيع الليل، والتخلي عن المشاغل ولزوم المساجد طلبا لليلة القدر. علي المالكي