طالب مفتي طرابلس وشمال لبنان الشيخ الدكتور مالك الشعار، بضرورة تحري العلماء الراسخين في البحث عن الفتاوى الشرعية، مؤكدا أن للفتاوى الصحيحة علاماتها توضح أنها صدرت بالاستناد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأوضح في حوار ل«عكاظ» أن بحث المستفتي عن الرخصة الشرعية ليس نوعا من الزندقة وإنما بحث عن المباح وهو أمر مشروع، مستدركا «لكن المنهي عنه هو أن يتتبع الإنسان الرخص في كل أموره، والأصل أن نأخذ بالعزائم». وأضاف: لأن طبيعة الإنسان فيها من الضعف وما يعتورها من المد والجزر والقوة والضعف. النبي عليه الصلاة والسلام قال «ما خيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما ما لم يكن إثما»، بهذا القيد لا يجوز أن نختار الأيسر لو كان فيه نوع من الخروج عن الجادة والصواب. على كل حال كل يأخذ حسب طاقته وحسب تدينه، ولكن ينبغي أن نوجه عناية عامة للمسلمين لأهمية التوجه لدينهم وأن لا يتساهلوا أو يتراجعوا أو يضعفوا أمام أحكام الله تعالى.. وفيما يلي نص الحوار: الكثير من الناس باتوا لا يهتمون بالفتوى وأثرها الكبير في حياة المسلمين، رغم توافر العلماء المفتين من خلال وسائل الاتصال المختلفة.. في رأيكم كيف ترون ذلك الأمر، خاصة في هذا الشهر الكريم الذي يحتاج الصائمون فيه للإجابة على أسئلتهم. بداية أهنئ القراء الكرام بهذا الشهر الكريم، الذي أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، وقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ينتظرونه، وكانوا يدعون ربهم قبل مجيء الشهر بستة أشهر، ويقولون اللهم بلغنا رمضان، فإذا بلغوه باتوا يسألونه ستة أشهر أخرى أن يتقبله منهم. فكأنهم كانوا يشغلون بهذا الشهر سنة كاملة؛ هذا الشهر المبارك الكريم له خصائصه وأحكامه، ومناخه، وحيثياته الخاصة به مثل قيام رمضان وصلاة التراويح. كما أنه شهر القرآن والصدقات والزكاة وتكثر فيه العمرة. هناك قضايا إيمانية كثيرة ترتبط به. الأخرى بالمسلمين أن يسألوا عن أحوال دينهم، وأن لا ينفرد أحد منهم بدينه، وكفى وإنما كما جاء في الأثر «ولينظر أحدكم عمن يأخذ دينه». هذه الأحكام الشرعية ينبغي أن نتلقاها ونأخذها من أهل العلم والكفاءة والتدين والحرص،«ولينظر أحدكم عمن يأخذ دينه». ولا يكفي أن يكون الإنسان عالماً بأحكام الإسلام، وإنما ينبغي أن يكون مشهوداً له بالالتزام والورع والفضل والالتزام وتحري الأحكام الشرعية، فيحل ما أحله الله تعالى ويحرم ما حرمه؛ والأحكام التي تتعلق برمضان، ربما يحيط أهل العلم والمعرفة بدقائقها وأحكامها بخلاف الأحكام العامة التي تختلف من دولة لأخرى لأسباب السياسة أو غيرها. لذلك أكرر ما سبق أن أعلنته عبر وسائل إعلام من تأييد وشكر لخادم الحرمين الشريفين، الذي أعلن أن الفتوى العامة التي لها علاقة بقضايا الدولة والدول مع بعضها، ينبغي أن تكون خاصة بهيئة كبار العلماء، لأنهم يدركون المصلحة الشرعية من الحكم؛ أما الأحكام التي لها علاقة برمضان، ربما يكون إمام المسجد الذي حصل على الشهادة الشرعية على دراية بها. ضوابط الفتوى هناك الكثير من الفتاوى المخالفة لضوابط الفتوى الشرعية الصحيحة، تظهر وتختفي، حيث يغيب عن معظمها أتباع منهج أهل السنة والجماعة.. في رأيكم كيف نجنب المسلمين تلك الفتاوى الجانحة إلى مفارقة الجماعة؟ لا يخفى على كل ذي لب وبصيرة، أن حال الناس أصبح على جانب كبير من المعرفة. المبتدعون الجانحون عن الجماعة، الذين يختلقون السبل الضيقة التي فيها العنت والحرج أصبحوا معروفين؛ لذلك أنصحهم بأن يجتنب المسلمون هؤلاء، حتى لا يقعوا في الحرج والعنت، وأن لا يسمحوا لأولئك بإفساد حياتهم. عندما ذكرت في الأثر «ولينظر أحدكم عمن يأخذ دينه»، لقد أردت بذلك لفت النظر إلى أن هناك من العلماء من اشتهروا بالورع والتقوى وأداء الصلاة والحرص على مصالح الأمة الشرعية. من هؤلاء نأخذ الفتاوى والأحكام، ونعرف منهم الحلال والحرام. أما من اشتهروا بالابتداع والبحث عن الطرق التي بها الفتاوى الضعيفة، أو الشاذة التي لم يقل بها أهل العلم، ولم تستند إلى دليل أو ركن وثيق، يجب أن نتجنب فتاواهم وأقوالهم،ولا نتلقى منهم شيئاً، حتى لا نضِل أو نُضل. هناك أمور على المسلمين أن ينتبهوا لها وهي أن الفتاوى الشرعية لا يمكن أن تخرج أبداً عن المصلحة العامة للمسلمين، لأنه من المعلوم بداهة أن جميع الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق مصالح العباد. كما أن الفتاوى الصحيحة لا يمكن أن تكون متضاربة أو متناقضة، ولا يجوز أن يكون الحكم الشرعي مناقضا لمقاصد الشريعة الأساسية التي يعلمها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. كذلك هناك بعض ضوابط الفتوى لها علاقة بالمفتي وبعضها لها علاقة بالفتوى، وما ذهب إليه أهل الدراية والعلم من أن تكون الفتوى مأخوذة عن أهل الاختصاص وهي الواجب الذي ينبغي أن يسلكه المسلمون في حياتهم. التشديد والتيسير هناك سؤال حول التشديد والتيسير وما بينهما من ملامح وعلامات شرعية؛ البعض يقول إن هذه الفتوى ميسرة أو معسرة، ما هي الضوابط المنظمة للأمر والتي نستطيع بواسطتها الحكم على الفتوى؟ من المعلوم أن الإسلام هو دين الفطرة والله تبارك وتعالى يقول في محكم تنزيله: «ما جعل الله عليكم في الدين من حرج». لا يمكن أن تكون هناك حكم فوق قدرة واستطاعة المسلمين لقوله تعالى: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها». وهذا يدل على أن الأحكام الشرعية تتناسب مع الفطرة، وضمن قدرة الإنسان واستطاعته، كما أن عامة المسلمين لا يجتمعون إلا على الخير، ولا يمكن أن يجتمعوا على ضلالة. كذلك لا يمكن أن يجتمع أهل العلم على ما فيه مشقة وعنت أو نوع من التشديد على عباد الله تعالى. لذلك يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، «بشروا ولا تنفروا» ويقول «إن هذا الدين شديد فأوغلوا فيه برفق»، ويقول «فسددوا وقاربوا» ويقول «يسروا ولا تعسروا». لا يمكن أن تكون الفتوى تحمل من التشديد والحرج والإرهاق على المسلم على الإطلاق، وإنما ينبغي أن تكون موائمة للفطرة وفي باطنها التيسير، مما يستطيع معه عامة المسلمين فعله. التوفيق بين أمرين يقول نبينا عليه الصلاة والسلام، «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه»، ولكن بعض العلماء يقول إن البحث عن الرخص هو نوع من الزندقة.. كيف نستطيع التوفيق بين هذين الأمرين؟ لا أعتقد أن البحث عن الرخصة هو نوع من الزندقة، هو بحث عن المباح وهو أمر مشروع؛ لكن المنهي عنه هو أن يتتبع الإنسان الرخص في كل أموره. الأصل أن نأخذ بالعزائم. لكن لأن طبيعة الإنسان فيها من الضعف وما يعتورها من المد والجزر والقوة والضعف، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال «ما خيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما ما لم يكن إثما». بهذا القيد لا يجوز أن نختار الأيسر، لو كان فيه نوع من الخروج عن الجادة والصواب؛ على كل حال كل يأخذ حسب طاقته وحسب تدينه، ولكن ينبغي أن نوجه عناية عامة المسلمين لأهمية التوجه لدينهم، وأن لا يتساهلوا أو يتراجعوا أو يضعفوا أمام أحكام الله تعالى. نفحات الشهر في بعض الدول الإسلامية ينقضي الشهر دون أن يستفيد المسلم من نفحات الشهر الكريم؟ أتمنى أن يكون هذا الحديث سابقاً لشهر رمضان لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل رجب يقول «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان»، وكان صلوات ربي وسلامه عليه أكثر ما يصوم قبل رمضان في شهر شعبان وذلك لحسن استقبال الشهر الكريم. أما وقد أظلنا الشهر وأنعم الله به علينا، فلا يسعنا إلا أن نرفع الهمة ونقوي من إرادة الخير وأن نقبل على الله تعالى، كما جاء في الأثر «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»، فلا بد من استنهاض الهمم وأن نتعاون على البر والتقوى ونتواصى بالحق والصبر وأن يشد كل منا عضد أخيه. ليس هناك أفضل من التزام جماعة المسلمين في المسجد لأن ذلك يقوي إرادة الخير، عند عامة المسلمين. ينبغي أن نرغب الناس وأن نبين لهم إذا جاء رمضان أنه فتحت أبواب الجنان، وأغلقت أبواب النار وصفدت الشيطان، وأن رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. وأنه إذا جاء رمضان نادى مناد في السماء يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر حتى ينقضي رمضان. شحذ الهمم ومن شأن ذلك أن يشحذ الهمم ويقوى الإرادة ويرفع المعنويات، وأن يجعلنا نعيش هذا المناخ الإيماني، والعبق القرآني والأنوار الرمضانية، التي نأمل أن يكتب الله لنا فيها الأجر والثواب. العنت والشدة المسلمون في بعض الأقطار يمر هذا الشهر الكريم لهذا العام وأحوال المسلمين مختلفة وهم يعانون البلاء والعنت والشدة بم توجهون هؤلاء؟ ألفت النظر إلى أن رمضان شهر يستطيع المؤمن أن يعرف فيه حجم إيمانه وقوته. عندما يقول النبي عليه الصلاة والسلام، إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران وصفدت الشياطين. ما الذي يمنع الإنسان عند ذلك أن يفعل الخير؟ الإنسان في صراع دائم بينه وبين النفس والهوى والشياطين، فإذا ما صفدت الشياطين ليس هناك ما يمنع الإنسان عن ربه. إذا أقبل أدرك أن إيمانه قوي وفيه من الخير والبركة، وأن سبب ضعفه قبل رمضان هو هيمنة الشياطين والأبالسة. أما إذا جاء رمضان ولم يقبل على ربه بالتوبة والندم والصيام والقيام والإقبال على كتاب الله الكريم، ولم يرتد المساجد ويلتزم الجماعة والتراويح، فعليه أن يدرك أن حجم إيمانه ضعيف إلى الحد الذي لم يستطع فيه أن يؤدي العبادات على وجهها الأتم والأكمل. رمضان هو ميزان الإيمان عند المسلم. كل إنسان يستطيع أن يدرك ذلك في هذا الشهر الكريم. إذا أقبل على الله علم أن سبب التقصير الذي كان يلحقه قبل رمضان بسبب الشياطين. إذا بقي التقصير خلال رمضان فهذا يعني أن هوى نفسه أقوى من إيمانه. كذلك فإن الإنسان بحاجة ملحة وماسة إلى أن تطمئن نفسه ويشعر بالسكينة، ورمضان هو شهر الأمن النفسي والاطمئنان والعطاء والخير والرحمة والفرج. كل هذا يكون في رمضان، وكما قال الشاعر: يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت إن الكبائر في الغفران كاللمم الندم والإقبال على الله تعالى، وقطرات الدمع والحسرة من شأنها أن تجعل الإنسان بين يدي ربه في حالة من الخشوع والانكسار، مما يجعله يفوز برحمة الله تعالى وغفرانه والعتق من النار. السيرة النبوية هناك محطات كثيرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم، هلا أوضحتها لنا وأبنت أهميتها في حياتنا؟ من المحطات الأساسية في حياته، أنه كان منفقاً وكان جواداً وكان أكثر ما يكون جوداً وإنفاقاً في رمضان. كان أجود من الريح المرسلة وكان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شد المئزر واعتزل أهله وأقام ليله وكان يصلي في كل ركعة ما شاء الله تعالى له أن يقرأ. كان يبدأ بفاتحة الكتاب ويتبعها بسورة البقرة وآل عمران والنساء، وكان إذا ركع كان ركوعه كقيامه وإذا سجد كان كذلك صلى الله عليه وسلم.وفي العشر الأواخر كان يزيد عبادته وإقباله على الله عز وجل. والثلث الأخير هو أيام العتق من النار ويعتق فيها أضعاف ما يعتقه في بقية أيام رمضان. كذلك كانت له وقفات كثيرة في شأن الفقراء والضعفاء وكلها تجعل الإنسان يشعر بما يشعر به إخوته. وقد قال عليه الصلاة والسلام «الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله». ومن محطاته كذلك أنه كان يقرأ القرآن الكريم في رمضان أكثر من بقية أيام السنة وشهورها، وكان جبريل عليه السلام يأتيه ويراجع معه آيات القرآن وكأنها أنزلت الآن. أتباع المذاهب كيف يمكننا أن نجعل هذا الشهر على بقية أتباع المذاهب وكيف نستطيع التأثير عليهم في هذه الأيام المباركة؟ لا يخفى على أهل الخير واللب والبصيرة أن الإسلام، إنما جاء رحمة للعالمين. الإسلام هو دين الرحمة، ولذلك يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، ويقول عليه الصلاة والسلام «إنما أنا رحمة مهداة». حصر بذلك دعوته وبعثته بأنها رحمة للناس جميعاً. هذا يعني أن الإسلام يستوعب ويحتضن العالمين أيا كان انتماؤهم الديني والمذهبي والمناطقي. كل واحد من الخلق يشعر أنه ينبغي أن يكون مفتاحاً لأبواب الخير، ومغلاقاً لأبواب الشر. وبمقدار ما يوفق الله تعالى عباده المؤمنين لحسن التعامل مع الآخرين، سواء كانوا من أهل الرسالات السابقة، أو من أهل من لا دين لهم ولا رسالة سماوية بمقدار ما نستوعب ذلك لنشعرهم بأن الإسلام رحمة الله لهم، وبهم وهو الرحمة التي تحتضنهم جميعاً. في رمضان ينبغي أن تصفو نفوسنا وتقوى همتنا ويشتد ساعدنا لنقبل على الله بكلياتنا. والإقبال إلى الله تعالى ليس قاصراً على قيام الليل وتلاوة القرآن والإنفاق والصدقة والعمرة وبقية المناسك، وإنما ينبغي أن يشتمل على حسن العلاقة والتعامل والتعايش مع أبناء البلد والمجتمع أياً كان انتماءهم الديني أو المذهبي أو السياسي. نقبل الطاعات هذا يعني أن الطاعات في شهر رمضان ليست مقتصرة على العبادات فقط؟ نعم، وأشكركم جزيل الشكر على هذا اللقاء والفرصة الطيبة وأسأل الله أن يتقبل طاعتنا وأن يعتق رقابنا من النار وأن يحرر المسجد الأقصى وبيت المقدس من اليهود وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلا.