حتى هذه اللحظة تعد الكتابات والمؤلفات التي تناولت الحديث عن النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، قليلة ونادرة في المجالين العربي والإسلامي، ولم يلتفت كثيرا إلى هذا الجانب فحصا ودراسة وتصنيفا، مع وفرة الكتابات والمؤلفات حول القرآن، والتي لم تتوقف أو تنقطع منذ العصور القديمة والوسيطة وحتى هذه العصور الحديثة والمعاصرة، بأصنافها الوجيزة والوسيطة والمطولة، وعلى مختلف أقسامها ومستوياتها، وتعدد وتنوع ميادينها ومجالاتها. والسؤال المركزي الذي يطرح عند طرق هذا الموضوع هو: هل يمكن الحديث عن نزعة إنسانية في القرآن؟ وهل توجد مثل هذه النزعة في كتاب إلهي؟ منشأ هذا السؤال بهذه الطريقة التي يغلب عليها الطابع الإشكالي والاحتجاجي، هو أن البعض قد يرى افتراق وتباعد الجانب الإلهي عن الجانب الإنساني، بصورة لا يمكن الجمع بينهما أو التجاور أو التضايف، وذلك على أساس أن كل ما هو إلهي لا علاقة له بالجانب الإنساني، وكل ما هو إنساني لا علاقة له بالجانب الإلهي، إلا من طرف بعيد. واستنادا على هذا الموقف، فإن اعتبار القرآن كتابا إلهيا فلا صلة له بالجانب الإنساني، الأمر الذي يترتب عليه القول بأنه لا يمكن الحديث عن نزعة إنسانية في القرآن، لأنه لا توجد مثل هذه النزعة في كتاب إلهي. ومشكلة هذا الرأي أنه يتسم بالتحيز الواضح، وينزع نحو التطرف والغلو، ويغلب عليه الطابع الايديولوجي، ويبتعد عن الطابع المعرفي، وجاء لإغلاق الطريق أمام إمكانية البحث والتعرف على مثل هذه النزعة الإنسانية في القرآن، وتفويت هذه الفرصة، وجعلها خارج نطاق التأمل والنظر والبحث. كما أن هذا الرأي يجنح نحو الإسقاط الديني والتاريخي، بإسقاط ما حدث على الموقف الديني المسيحي خلال العصور الوسطى في أوروبا، وإسقاطه على الموقف الديني الإسلامي خلال العصور الحديثة والمعاصرة، من دون الالتفات إلى ما بين الوضعين من تباينات وفروقات دينية وتاريخية واضحة وصريحة، وحتى مع الالتفات إلى هذه التباينات والفروقات التي لا تأثير لها في نظر القائلين بهذا الرأي. ومن جانب آخر، فإن هذا الرأي لم يعد له ذلك التأثير والاعتبار الذي كان عليه من قبل، حين كان هذا الرأي يحظى بالأهمية والتأثير والاعتبار في الثقافة الغربية، التي تولد منها هذا الرأي، وارتبط بمجالها الثقافي والديني، وفي وقت لاحق تراجع هذا الرأي عند الغربيين، وفقد سطوته، واستنفدت حاجته الوظيفية، وظهر هناك ما بات يعرف بالإنسانيات الدينية، أو الإنسانيات المسيحية، ومع هذا التراجع في الثقافة الغربية للرأي المذكور، تراجعت قيمته وتأثيراته في المجال العربي، تطبيقا للقانون الخلدوني بولع المغلوب بالغالب. والمفارقة المدهشة في هذا الشأن، أن الموقف القرآني كما سوف يتضح في المقالات القادمة، ليس فقط يثبت ويؤكد وجود مثل هذه النزعة الإنسانية، وإنما يثبت أيضا تفوق هذا الموقف القرآني وبلا قياس أو مقارنة على مواقف القائلين بهذه النزعة، والمتبجحين بها في المجالين العربي والإسلامي. ومن هذه الجهة يرى الدكتور علي سامي النشار أن المذهب الإنساني في القرآن مذهب رائع أخاذ، ومن المؤكد في نظره أن القرآن لم يترك نظرية أو مذهبا فلسفيا شغل به العقل الإنساني، دون أن يبحث فيه، ويضع أصوله العامة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة