في الجزء الثاني من حواره ل«عكاظ» يتناول الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي، خطورة التسول محذرا من أضراره على الفرد والمجتمع وأنه يؤدي إلى ضعف الهمم، ودفن النبوغ، والتسول يورث سفولا وانحطاطا، وانتزاع البركة من المال والرزق والمكاسب. وقال إن كثيرا من السلف لا يرون جواز التصدق على السائلين في المساجد. وبين ابن حميد أن الإسلام حث على العمل والكد وضرب بحال أنبياء الله ورسله المثل في ذلك، إذ إن الجميع -دون استثناء- كانوا يأكلون من عمل أيديهم ولا يسألون الناس، لافتا إلى أن الإسلام عد طلب الرزق المباح عبادة.. فإلى التفاصيل: • أصبح رمضان للبعض موسما يدر الأرباح باقتناص الفرص عبر امتهان التسول على موائد الرحمن أو في المساجد والطرقات وعند المنازل، فماذا تقول لهؤلاء خصوصا غير المستحقين منهم؟ • إذا نظرنا في أحوال الفقراء وجدنا أن ما هم فيه من بؤس وقلة يعود إلى نوعين من العوامل: داخلية، وخارجية. فبعض الناس يكون فقيرا؛ بسبب عدم تعلمه وحصوله على ما يؤهله لسوق العمل، وبعضهم يكون فقيرا؛ بسبب كسله، أو عدم طموحه وهمته، أو مما يمنعه من رؤية الفرص التي أمامه، وبعضهم بسبب تغير الظروف عليه وعدم استطاعته الانسجام مع الظروف الجديدة؛ كما يحدث مع المشرد الذي فقد وطنه وصار لاجئا في بلاد أخرى، ومن الناس من يبذل جهده، ويعمل ما عليه، ويأخذ بما يعرفه من الأسباب، ثم يجد نفسه في صفوف الفقراء أو من قدر عليهم رزقهم، فلا يكاد يصل إلا إلى بعض حاجاته الضرورية. وفقر هذا الصنف من الناس يعود إلى أسباب خارجية، تعود في الغالب إلى البيئة التي يعيش فيها، وإذا ألقيت نظرة على واقع الفقراء فإنك ستجد أن فقر السواد الأعظم منهم يعود إلى عوامل ذاتية داخلية، على نحو ما أشير إليه، وفئة محدودة منهم تعاني بسبب صعوبة البيئة أو ضغوط الآخرين وعدوانهم. استجلاء الموقف • هل في الشريعة ما يبين أنها عالجت هذا الامر؟ • نعم، يجب استجلاء الموقف الإسلامي، والشريعة الإسلامية من التسول، إذ إن الإسلام -كعادته- كان سباقا في التعاطي مع هذه المشكلة، ووضع لها الحلول من أجل الوصول إلى أفضل المجتمعات، التي يتمتع فيها أغلب الأفراد بحياة كريمة وعزيزة، وهو ما جعله حريصا على أن يربي المسلمين على مكارم الأخلاق، ويغرس فيهم العزة والشمم، والترفع عن النقائص، والبعد عن المعايب. التعفف عن السؤال • لكن البعض يتعفون عن السؤال؟ • صحيح، لقد مدح الله عز وجل في كتابه الكريم من تعفف من الفقراء، فقال تعالى: «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم»، والآية وإن وردت في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنها تتسع لتشمل من اتصف بهذا الوصف، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما يقول الفقهاء. كسب طيب • هل هناك من السنة ما يرغب في تعفف السائل؟ • هناك أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم تنفر من سؤال الناس، وترغب في أن يكون المسلم عفيفا، ذا كسب طيب ينفق منه ويتصدق، كذلك يؤكد الإسلام أن الأصل في سؤال الناس هو الحرمة، ولا يستثني من هذا الأصل إلا من استثناه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، حيث بين من تحل له المسألة، فالمسلم لا تحل له المسألة إلا إذا وجدت الضرورة التي تلجئه إلى هذا السبيل. امتهان التسول • لكن أولئك المتسولين امتهنوا هذا العمل وباتوا متقاعسين عن العمل؟ • هذا خطأ، فالإسلام حث على العمل والكد، ضاربا بحال أنبياء الله ورسله المثل في ذلك، إذ كان الجميع بلا استثناء يأكل من عمل يديه، ولا يسأل الناس، بل إن الإسلام عد طلب الرزق المباح عبادة، فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده». السؤال في المساجد • هل هناك ما يشنع على المتسولين ويجرم فعلهم؟ كثير من السلف لا يرون جواز التصدق على من يسأل في المسجد. وقال بعضهم: لو كنت قاضيا لم أقبل شهادة من يتصدق على من يسأل في المسجد والمتسولين فيه. ومما سبق يظهر التحذير من التسول وأضراره على الفرد والمجتمع، وأنه يؤدي إلى ضعف الهمم، ودفن النبوغ، والتسول يورث انتزاع البركة من المال والرزق والمكاسب. استغلال ومتاجرة • يتسابق المتاجرون في مجال التجارة المختلفة على استغلال المعتمرين وقاصدي بيت الله الحرام خصوصا في المواقف القريبة من الحرم.. فما توجيهاتكم لمستغلي المعتمرين؟ • نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن استغلال جهل المشترى بأسعار السلع في الأسواق؛ نظرا لأنه ليس من أهل المنطقة مثلا أو لغير ذلك من الأسباب فقد منع النبي -صلى الله عليه وسلم- تلقي الركبان من أهل البادية قبل وصولهم للسوق لما في ذلك من استغلال لجهلهم بالأسعار ولما فيه من التضييق على أهل الحاضرة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التلقي وأن يبيع حاضر لباد) رواه البخاري، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» رواه مسلم. قال الإمام النووي: قوله: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضر لباد». وفي رواية «قال طاووس لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكن له سمسارا». وفي رواية «لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض». وفي رواية عن أنس: «نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه أو أباه». تحريم البيع • هل نفهم من هذه الأحاديث أن المعتمرين في عداد القادمين من البوادي؟ • هذه الأحاديث تتضمن تحريم بيع الحاضر للبادي، وبه قال الشافعي والأكثرون. قال الحنابلة: والمراد به أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلدي: اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأعلى شرح النووي على صحيح مسلم. • لكن ما علة ذلك؟ • علة النهي عن بيع الحاضر للبادي: «... ما يؤدي إليه هذا البيع من الإضرار بأهل البلد، والتضييق على الناس. والقصد أن يبيعوا للناس برخص. قال ابن القاسم: لم يختلف أهل العلم في أن النهي عن بيع الحاضر للبادي إنما هو لنفع الحاضرة، لأنه متى ترك البدوي يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد، ضاق على أهل البلد، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليله إلى هذا المعنى». أهل الحاضرة • وما المقصود أيضا من هذا النهي؟ • يمكن أن يكون النهي حتى لا يحول أهل الحاضرة بين وصول أهل البادية إلى الأسواق ومعرفة الأسعار الحقيقية فيشتري أهل الحاضرة السلع بأرخص الأسعار ثم يغالون في أسعارها. تحقق البركة • ما هي كلمتكم للتجار في هذ الصدد؟ • على الإخوة التجار أن يعكسوا النظرة الإيجابية للتاجر المسلم الذي يدرك قيمة تواصله مع الناس وأثر صدقه فبهذا تتحقق البركة وينتشر الحق. المغالاة في الأسعار • هناك من استمرؤوا المغالاة في الأسعار، كيف تعلقون على ذلك؟ • إن غلاء الأسعار في اكثر البلدان مما عم به البلاء، وما يقع في الناس أولا بسبب ذنوبهم، «وما أصابك من سيئة فمن نفسك» سورة النساء:79، ولكن هذا الداء لا بد من النظر إليه من منظار الشريعة. • ولماذا؟ • لأن مثل هذه الظواهر إذا لم تعالج أدت إلى كوارث ونتائج سيئة: انتشار الفقر في المجتمعات، وظهور الأمراض الخطيرة الاجتماعية من البطالة والسرقة والإجرام، وكثرة المتضررين، واتساع الطبقة الفقيرة، وإلحاق كثير من أفراد الطبقة المتوسطة بالفقراء، أن يشيع العنت، ويحدث التأثر المباشر لتمس الظاهرة دخول الأسر، وهذا الدخل المسكين، الذي ينتف من هنا ويؤخذ من هنا إذا حصل لحوق الضرر به، عم الغم والهم والحزن. والغني ربما لا يشعر، فيقول لمن يرسله لشراء شيء له: اشتره بأي ثمن كان! موجة الغلاء • وهل هذا مقصور على السوق المحلي فقط؟ • موجة الغلاء اجتاحت أسواق العديد من البلاد العربية والإسلامية، حيث ارتفعت فيها أسعار السلع حتى الأساسية ارتفاعا فاحشا، مما أدى إلى إنهاك جيوب الشرائح الاجتماعية من ذات الدخل المحدود. ولا شك أن مثل هذا يؤدي بتسلسله إلى نتائج ذات آثار أخرى كعزوف الأفراد عن الشراء، وانخفاض حركة البيع والشراء، مما يؤدي إلى الركود الاقتصادي، وهذا سيعم ضرره الكثير. جشع وطمع • هل يعزى ذلك الى ذنوب الناس مثلا؟ • الله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه لا تصيب الناس مصيبة إلا بما كسبت أيديهم، ولكن هذا يدفع بالتوبة، ويدفع كذلك بمعرفة الأسباب وعلاجها. فإذا وجد الجشع والطمع من بعض التجار فلا بد من علاجه، وإذا ضعفت المراقبة فلا بد من تعزيزها، وإذا تقلص دعم المواد الأساسية فلا بد من زيادته، وإذا كانت الخصخصة في بعض القطاعات هي السبب فلا بد من مراجعة وإعادة النظر فيها. • قد يأتي تبصير التجار بأهمية رحمة الناس بنصوص الشريعة وتعاليم الاسلام .. أليس كذلك؟ • نعم وهنا يجب ان نعلم ان محبة الخير للمسلمين أمر أساس، وقد حث عليها الدين الحنيف حتى ان الرجل من السلف كان يحذر من أن يزداد ربحه على حساب معاناة الآخرين، والتاجر المسلم يتحلى بحسن النية، والرفق بالمسلمين، وتوفير الجيد لهم بالثمن المناسب لهم، وأن يكون أمينا. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم «كما في سنن الترمذي» إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: (يا معشر التجار). فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا، إلا من اتقى الله وبر وصدق). • وماذا كان دافعهم في ذلك؟ • كان دافعهم في ذلك اجتناب أكل أموال الناس بالباطل، اذا لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. ولا يغشون. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم «كما في صحيح مسلم» على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟، من غش فليس مني). كذب واحتيال • وما المحاذير التي ينبغي ان يتجنبها التاجر المسلم؟ • على التاجر المسلم ان لا يكذب ولا يحتال، وهذا اللحن في الكلام، وأنواع المخادعة في الدعايات والإعلانات والمسابقات التجارية، فيها كثير من الخداع للناس، وأكل أموالهم بالزور، ودفعهم إلى شراء ما لا يحتاجون، ويكون هذا المشتري المسكين في النهاية هو الخاسر. ولا بد من التفقه قبل البيع والشراء كما قال عمر رضي الله عنه: «لا يبع في سوقنا إلا من قد تفقه في الدين»حديث موقوف حسن. وينبغي أن يكون سمحا في المعاملة، سمحا في القضاء والاقتضاء، سمحا في البيع والشراء. وقد قال عليه الصلاة والسلام «كما في صحيح البخاري»: (رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى). • وماذا يجب على التاجر تجاه مجتمعه؟ • عليه ان يكون سخيا بالصدقات، فقد قحط الناس في زمن أبي بكر فقدمت لعثمان رضي الله عنه قافلة من ألف راحلة من البر والطعام. فغدا التجار عليه، فخرج إليهم فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برا وطعاما، بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة. فقال لهم: ادخلوا فدخلوا. فقال: كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: العشرة اثنا عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشر خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟. قال: زادني بكل درهم عشرة عندكم زيادة؟. قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة. • هل هناك نماذج اخرى من الصحابة والسلف في هذا المجال؟ • نعم هكذا كانوا جميعا ومنهم عثمان رضي الله عنه وابن عوف، وغيرهم من أغنياء التجار، يجودون على فقراء المسلمين، ولا يستغلون مثل هذه الفرص؛ لكي يرفعوا الأسعار، ويحتكروا الأطعمة؛ ليبيعوا على الناس بالغلاء، إن الرفق بالمسلمين أمر جد طيب، وإن الحرص على مصلحتهم أمر جد حسن، فقد جاء عن محمد بن المنكدر رحمه الله أنه كان له سلع تباع بخمس وأخرى بعشرة، فباع غلامه في غيبته شيئا من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت. قال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة، وإما أن نرد إليك خمسة، وإما أن تأخذ بدلا من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال: أعطني خمسة. فرد عليه خمسة، وانصرف الأعرابي المشتري يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر. فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. وكان أبو حنيفة رحمه الله بزازا يبيع القماش، وكان عنده ثوب فيه عيب، فجعله جانبا، فجاء خادمه في غيبته فباع الثوب المعيب بقيمته كما لو كان سليما، فلما جاء الإمام إلى محله وسأل عن ذلك الثوب قال الغلام: بعته. قال: بكم؟. قال: بكذا أي: بسعر السليم . قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟. قال: لا. فتصدق بقيمة الثوب كله.