في الحلقة الأولى من حياة الفريق أول ركن عبد الله بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله الذي شغل عدة مناصب قيادية أمنية آخرها مدير الأمن العام، ثم سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في مملكة البحرين، وصف مقربون الراحل المقيم بأنه كان رمزا ومدرسة في فن القيادة والانضباط والدقة، وقامة وطنية قدمت لوطنها الكثير. الأمير سعود بن عبد المحسن قال: إن آل الشيخ تقلد قيادة الأمن العام في ظروف دقيقة، وتمكن بجدارته وإخلاصه ومهنيته أن ينجزها على خير وجه، وقد أبلى بلاء حسنا في جميع المهمات التي أوكلت له، وأشرف على أدق المهمات وأصعبها. محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ الكاتب المعروف كشف عن الجانب الآخر في شخصية الفريق آل الشيخ، أنه كان شلالا من رقة وعطف وحنان، وإنسانا يفيض بكل معاني النبل والعطاء. في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا السجل الحافل بعطاءات الرجل، يتواصل الحديث عن الفقيد آل الشيخ، حيث يروي المقدم متقاعد محمد عبد الرحمن الفوزان مدير مكتبه على مدى 13 عاما أنه في أول يوم قدم فيه الفقيد للعمل بالأمن العام طلب الاجتماع بالقادة و المسؤولين، وأتذكر أنه طلب منا تدوين ما سوف يقوله، وكانت أولى النقاط التي قالها، الإشادة بجهود من سبقوه بإدارة هذا المرفق الهام «إننا سوف نجني ثمار ما زرعوه»، وسوف يأتي اليوم الذي سيجني من يأتي بعده ثمار ما سوف يزرعه، والأمر الآخر مطالبته بمضاعفة الجهد وخدمة المواطن والوافد والحاج والسهر على راحتهم وأداء الواجب على أكمل وجه«خدمة الدين ثم المليك والوطن أساس عمل رجل الأمن». ويستطرد المقدم الفوزان في وصف ذكرياته عن الفريق آل الشيخ: مع مرور الأيام والشهور والسنوات أنشأ إدارة للميزانية لتتولى مناقشة الميزانية مع وزارة المالية وافتتح لها فروع بالمناطق، وأدخل الحاسب الآلي في أعمالها، وأنشأ إدارة للشؤون الدينية بهدف تثقيف منسوبي الأمن العام دينيا، وتبصيرهم بعقيدتهم عى أسس صحيحة، وتنمية روح الإخلاص والتفاني في أداء الواجب الأمني، لتقوم هذه الإدارة بنشر الإرشاد الديني بين السجناء على وجه الخصوص عن طريق الدروس وتحفيظ القرآن الكريم، والإشراف على مساجد إدارات الشرط وتأمين جميع ما يلزمها، كذلك تم في عهده يرحمه الله إنشاء إدارة الأسلحة والمتفجرات؛ لتكون الجهة المسؤولة عن إصدار التعليمات والأوامر المتعلقة بتحقيق الأمن والسلامة واشتملت على أقسام كثيرة منها أقسام للفسوحات وأقسام أخرى تشرف على الاستيراد والنقل وكشف المتفجرات وإبطالها، وأقسام تشرف على المواد الكيماوية المرتبطة بها. إدارة الشؤون الفنية ويضيف الفوزان: أذكر أنه استحدث عام 1401 ه إدارة كانت تسمى إدارة الشؤون الفنية ومن المسمى يتضح اختصاصها في نشر علوم الحاسب وتطبيقه في المجال الأمني والمرورى، وأذكر أيضا أنه منذ تعيينه في جهاز الأمن العام عام 1400ه استحدث إدارة الملبوسات والتجهيزات العسكرية هدفها الاهتمام بالمظهر العام لرجل الأمن وإنشاء ورش للخياطة لتوحيد الزي الرسمي وكل ما يلزم من مستلزمات فنية وحتى يصبح مظهر رجل الأمن مشابها لرجال الأمن في البلدان الأخرى، وأتذكر أيضا اهتمامه بإنشاء لجنتين هامتين: الأولى كانت تسمى لجنة المكافآت والأوسمة وتعنى هذه اللجنة في الرفع لمقام وزير الداخلية بأسماء الضباط والأفراد الذين لهم تميز في العمل الأمني لمكافأتهم ماديا ومعنويا بالأوسمة والميداليات واقتراح المكافآت المالية لهم أو للمواطنين الذين يقومون بالإبلاغ عن الجرائم. أمن المنشآت أما اللجنة الأخرى فكانت تسمى اللجنة الإدارية، وقد اختار لها نخبة ممتازة من الضباط المساعدين وأصحاب الرأي، وهذه تحال لها المعاملات التي تحتاج إلى استشارات أو مرئيات؛ لتقوم بإبداء الرأي حولها وعملها تشاوري تقدم الرأي والنصح للمسؤول الأول. كما اهتم رحمه الله بشؤون المتقاعدين من الضباط والأفراد والموظفين؛ فتم إنشاء إدارة لخدمتهم تعنى بشؤونهم ومعالجتهم في المستشفيات التابعة لوزارة الداخلية أو في المستشفيات الأخرى المتقدمة من خلال العرض عنهم، وأذكر أنه أصدر قرارا في عام 1402 ه بإنشاء قوة أمن المنشآت من أهدافها أن تتولى تدريجيا حراسة المنشآت الهامة في البلاد والإشراف عليها. قوات أمن الطرق وأتذكر أن معاليه رحمه الله شعر أيضا بأهمية الأمن على الطرقات البرية، بعد أن توسعت الدولة في إنشاء شبكة الطرق الحديثة التي تربط شمال المملكة بجنوبها وشرقها بغربها فاستحدث قوات سماها قوات أمن الطرق لتقوم بنشر الأمن على (الطرق السريعة الزراعية الفرعية)، وتم تأمين دوريات بسيارات مجهزة بالأسلحة لمطاردة الخارجين عن النظام ونشر الأمن بين المسافرين عبرها ودعمها بالضباط والأفراد بعد تأهيلهم على المطاردة وجميع الأعمال الأمنية. الطوارئ الخاصة ونظرا لأهمية أعمال الحج والمواسم الدينية، استحدث الفقيد رحمه الله قوات الطوارئ الخاصة، كان من ضمن أعمالها منع الازدحام بالجمرات والأنفاق والمشاعر المقدسة وتأمين راحة الحجاج والمعتمرين في الحرمين الشريفين ونشر الأمن بين وفود الرحمن في مواسم الحج بصفة خاصة وفي بقية العام تكون جاهزة لتنفيذ ما يطلب منها من مهام أمنية، لافتا إلى أن الفقيد اهتم بتدريب الأفراد والضباط، واستكمال عمل من سبقاه في إدارة جهاز الأمن العام وهم الفريق أول فايز العوفي والفريق أول محمد الطيب التونسي رحمهما الله فتطورت مدينة التدريب بإنشائه العديد من المعاهد المتخصصة ومنها معهد الأدلة الجنائية، معهد المرور، ومعهد الأفراد، ومعهد الموسيقى، ومعهد التربية الدينية، ومعهد الآليات، ومركز تدريب الفروسية، وأتذكر أنه في عام 1404 ه قام الأمير نايف رحمه الله بافتتاح مشروع التطوير لمدينة التدريب والتي كانت تستوعب في تلك الفترة خمسة آلاف متدرب. ابتعاث الضباط كما اهتم الفقيد آنذاك بالرفع لمقام وزير الداخلية يطلب الموافقة على الابتعاث الداخلي والخارجي المنظم، وكانت أول مجموعة من الضباط سافرت إلى الدراسة في عام 1401 ه فذهب مجموعة منهم إلى الأردن وأمريكا ومصر وتوالت الدفعات والدول، وفي عام 1403 ه، شهدت غرف عمليات الدوريات قفزة نوعية، حيث تم استخدام نظام آلي يحدد موقع السيارات الأمنية بهدف توجيه أقرب سيارة أمنية إلى مكان وقوع الجريمة بأسرع وقت، وتوالى بعد ذلك التطوير والتحديث حتى أصبح لدينا في الوقت الراهن غرف عمليات تضاهي الدول المتقدمة. ولفت الفوزان أنه أسندت للفقيد مهمات أمنية هامة جدا أثناء حرب الخليج، حيث ترأس كثيرا من اللجان والأعمال الأمنية لتعزيز الجبهة الداخلية، وقد حرص على أن تكون اللحمة الوطنية هي المحور الأساسي للمحافظة عليها، كما أسندت إليه مهمة الاشراف المباشر وغير المباشر على أعمال الدفاع المدني وإدارات المخدرات والسجون وكلية الملك فهد الأمنية ورئاسة لجنة الضباط العليا، إضافة إلى عمله. وعندما تم اختياره موفدا لتثبيت بعض نقاط الحدود أو عند تفقده لشرط المناطق وعند أداء الواجب السنوي لأعمال الحج، كان لي شرف مرافقته، وقد تعلمنا منه رحمه الله الإخلاص والدقة والسرية وإنجاز العمل بشكل فوري فقد كانت شخصيته رحمه الله مزيجا من الهيبة والرحمة في نفس الوقت وكنت أخشاه شخصيا عندما يطلبني خوفا من وقوعي في خطأ غير مقصود، لكنه كان عطوفا متسامحا كريما مع أبنائه الضباط و الأفراد، وأشهد الله أنه كان محترما لرؤسائه يقدم الإخلاص ويتفانى بالعمل لخدمة دينه ومليكه ووطنه ويؤكد على ذلك في كل مناسبة، ولا أنسى سروره يوم الاثنين 23/2/1407 ه، عندما قلده الأمير نايف رحمه الله وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الممتازة الذي أمر خادم الحرمين الشريفين القائد الأعلى للقوات المسلحة الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله بمنحه له تكريما وتقديرا لجهوده وتوالت قبلها وبعدها أوسمة التقدير من داخل المملكة ومن خارجها، وقد حرص على بناء القيادات في عهده وكانت نظرته فيهم ثاقبة، حيث تقلدوا في السابق وفي وقتنا الراهن مناصب قيادية هامة، وقد نهلوا من خبراته الكثير وانعكس ذلك على أدائهم في أعمال الحج وخلافه، ألا رحم الله الفقيد عبد الله آل الشيخ رحمة واسعة فقد كان علامة بارزة في جهاز الأمن العام لا يمكن نسيانها وسيسجل التاريخ بطولات وتضحيات الرجال المخلصين لدينهم ووطنهم ومليكهم. حرس الحدود ويتذكر العميد فوزي جانبا من حياة الفقيد الراحل فيقول: تولى الفريق عبد الله آل الشيخ قيادة حرس الحدود من عام 1970م إلى عام 1981م، أحد عشر عاما أنجز فيها الكثير. وقد وضع رحمه الله الأسس والقواعد التي يسير عليها حرس الحدود حتى اليوم ومن منجزاته أنه أحدث نقلة نوعية وجوهرية في حرس الحدود من جهاز أولي وبدائي إلى جهاز عسكري حديث بكل ما في هذه الكلمة من معنى وكان لديه إصرار منذ البداية وهي وضع تشكيلات تنظيمية لهذا الجهاز حتى ينطلق منها. وقد حدد وبوضوح واجبات ومهام حرس الحدود، والتي منها حراسة حدود المملكة البرية والبحرية ومنع التسلل والتهريب والإنذار المبكر عن أي نوايا عدوانية تمس سيادة المملكة، وحول ذلك من مهام وواجبات إلى أعمال وأفعال على أرض الواقع كما بنى مبنى المديرية العامة لحرس الحدود الحالية في الرياض وقيادات نموذجية في كافة مناطق المملكة التي يتواجد فيها حرس الحدود، كما بنى قطاعات ومراكز حرس الحدود، والتي زودت بكافة المستلزمات المطلوبة، والتي تعتبر بمثابة سياج يغطي كافة حدود المملكة البرية والبحرية، والتي يزيد طولها على سبعة آلاف وخمسمائة كيلومتر، والتي تعمل دورياتها على مدار الساعة وطول العام، وأرسل منسوبي حرس الحدود في دورات إلى مدارس الجيش في كافة المجالات حتى كلية القيادة والأركان ليشكلوا نواة للقادة فيما بعد، وأسس كذلك مراكز للتدريب في كافة قيادات حرس الحدود، وأحدث نقلة في الجهاز البحري لحرس الحدود فحوله من جهاز بدائي يعتمد على القارب الناخوذة إلى جهاز بحري حديث مزود بزوارق قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، وأرسل البعثات المتتالية إلى الكليات البحرية خارج المملكة، والتي تخرج منها نخبة كبيرة من الضباط المتخصصين في كافة المجالات البحرية، وبنى المعهد البحري في جدة، والورش لصيانة المعدات البحرية، ولما كان حرس الحدود يعتمد على العربات في أداء عمله في مناطق نائية وعرة وبعيدة، لذلك بنى ورش صيانة مزودة بكافة المستلزمات وقطع الغيار في غالبية قطاعات حرس الحدود، وأوجد وسائل الاتصال المطلوبة لأعماله، والتعاون مع الجهات ذات الاختصاص بتزويد حرس الحدود بالخرائط المطلوبة لمعرفة كافة مناطق المملكة وطبوغرافية أراضيها، وأسس نواة لغرفة العمليات. وابتعث عددا من ضباط حرس الحدود للدراسات العليا في الولاياتالمتحدةالأمريكية في مختلف التخصصات. ترسيم الحدود كما ساهم في لجان ترسيم الحدود وكان له في ذلك دور فعال مع الدول المجاورة، وقام بتعديل مسمى الجهاز من المديرية العامة لسلاح الحدود وخفر السواحل والموانئ والمرافئ، ليصبح المديرية العامة لسلاح الحدود، وكان يقوم بزيارات دورية لتفقد كافة حدود المملكة للوقوف ميدانيا على سير العمل فيها. لقد عمل الفريق عبد الله آل الشيخ أحد عشر عاما في حرس الحدود كما ذكرت، ولا أذكر أنه أجرى مقابلة صحفية مع أحد طوال تلك الفترة إلا نادرا. لقد كانت فترة تتمثل فيها الجدية والمثابرة والسباق مع الزمن لتحقيق ما هو مطلوب إنجازه فلم يكن رحمه الله يحب الظهور والأضواء والمباهاة، فلا غرو إذا أن يحاسب أحد أبنائه بحزم على نقطة ناقصة في برقية أو خطاب. نقطة ناقصة ومن مواقفه مع الفريق آل الشيخ إبان عمله كقائد لحرس الحدود، يروي العميد السعيد هذه الواقعة البليغة: دخلت ذات مرة عليه رحمه الله وبيدي برقية مستعجلة تتطلب توقيعه عليها وكانت تبدأ بعبارة: (سبق وأن عمدتم)، قرأ البرقية ونظر إلي قائلا: إن هذا لا أقبله منك أنت بالذات يافوزي، قلت: خيرا، وإذا بكلمة (عمدتم) لم تظهر عليها بالآلة إلا نقطة واحدة بدلا من نقطتين. قد يقول قائل يا «أبا زياد»: إن القلم أمامك فضع النقطة الناقصة في مكانها وكفى المؤمنين شر القتال؛ ولكن هذا القائل لا يعرف أبعاد ما يرمي إليه آل الشيخ. وقد يقول آخر أخرج أنت ياهذا قلمك وضع النقطة الناقصة وانهي الموضوع، ولكن هذا القائل أيضا لا يعرف الفريق آل الشيخ الذي قال لي: تأخذ البرقية وتذهب إلى مكتب عبدالله السالم (مدير مكتبه) وتضع النقطة في مكانها وتعود وتعطي التحية العسكرية وتتأسف عما حدث! قد يعتقد إنسان أن هذا ينبع من صلافة التربية العسكرية، غير أن للموضوع أبعادا أخرى. وإلى ذلك يعلق الفريق محمد منيع البلاع مدير الإدارة العامة في حرس الحدود آنذاك: لا عجب إذا أن يحاسب الفريق آل الشيخ على نقطة في برقية أو خطاب، فالنقطة ليس غاية في ذاتها فهي مجرد نقطة ارتكاز للمحيط الكبير الذي يحيط بها من الخارج، وقد انتقل الفريق آل الشيخ إلى رحمة الله ولا يدري كم كان لتلك النقطة أثرا في حياتي. إنها كانت بمثابة شمعة تنير ليِ الطريق لأبحث على ضوئها أخطائي قبل أن يتصيدها غيري، لقد علمتني تلك النقطة كيف أربي أبنائي وبناتي والذين أحثهم دوما وأبدا ألا يقوموا بأي عمل مبتور في حياتهم: «راجع عملك وانتقده وأبحث عن نواقصه فمن يدري فربما تحاسب يوما عن نقطة ناقصة فيه». رحمك الله رحمة واسعة يا «أبا زياد» وأسكنك فسيح جناته.