تبنى الأمم بسواعد أبنائها وتنمو الدول بتسخير مواردها المادية لتنمية مواردها البشرية وإكسابها الخبرة بعد المعرفة خدمة لاقتصادها واجتماعها، رأس المال البشري أصبح أهم عناصر الإنتاج في الاقتصادات الحديثة، والاستثمار فيه أضحى أهم عوامل الازدهار والتقدم. التجربة الفنلندية تحكي عن بلد كان من أفقر بلدان أوروبا وأكثرها حروبا أهلية ونزاعات حتى منتصف القرن الماضي، ثم أصبح بداية هذا القرن أفضل دولة في العالم صحيا واقتصاديا وتعليميا ونوعية حياة حسب مجلة نيوزويك الأمريكية، بفضل استثماره في موارده البشرية. نحن أيضا صرفنا الكثير لتنمية مواردنا البشرية، وأحسب أننا تجاوزنا مرحلة الاستعانة بالأجنبي لحل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية، أصبح لدينا بيوت علم وخبرة واستشارة في علوم شتى ومراكز أبحاث جامعية تضم خيرة العقول، فإن كان الكم يعيبها فالنوعية تعليها، ولا شك أنهم ثروة في يد حسيب، إلا أنها ثروة معطلة لقصر مشيد واستثمار مهدر تنقصه ثقة متخذي القرار في قطاعينا العام والخاص. أرجئ الحديث عن القطاع الخاص لمناسبة أخرى، نظرا لأهمية دور القطاع العام في الإفادة من عقول استثمر هو في رعايتها وتنشئتها لخدمته المؤدية لخدمة مجتمعها، وأكتفي بمثالين حديثين وإلا فإن الجعبة ملأى لعدم استعانة بعض أجزاء قطاعنا العام ببيوت الخبرة الوطنية وتفضيل الأجنبية عليها، فنخسر بذلك مرتين، مرة بإضاعة فرصة الاستفادة مما تعبنا في بنائه وهو الأقرب لفهم بنيتنا الاجتماعية والثقافية، ومرة بدفع أموال أكثر لمن لا يفهم طبيعة مجتمعنا فتأتي دراسته ونتائجه مغايرة لأهدافنا. أول المثلين ما أعلن مؤخرا عن تعاقد وزارة العمل مع مكتب استشاري عالمي، لم يذكر الخبر مكانه، للتأكد من جودة وكفاءة العمالة المستقدمة ولتحسين معدلات إنتاجها، وثانيهما لجوء وزارة الاقتصاد والتخطيط لمعهد تنمية كوري لدراسة «الحالة السعودية»، لن أقول ما حك جلدك مثل ظفرك، ولن أتحدث عن عقدة الخواجة، تلك أدبيات لا أحسنها، لكن، ومع كامل الاحترام للمكتب العالمي وللمعهد الكوري، ماذا يمكنهما أن يقدما أكثر من أي بيت خبرة وطني، بل المنطق يفترض أن المحلي أعلم بالحال وبظرفي الزمان والمكان. ولينظر من يظن أن حديثي هذا عاطفي، ماذا قدم المكتب العالمي والمعهد الكوري، الأول استنتج أن لا بد من مواءمة مؤهلات المستقدمين للعمل مع المهنة المتعاقد عليها، وأوصى بوضع ضوابط عمالية لحماية حقوق العمالة، وطالب بتوعيتهم بثقافة عمالية مناسبة، هل من جديد هنا لا يعرفه رجل الشارع العادي؟ قبل الإجابة اقرأوا ما قرره المعهد الكوري عن حالتنا التنموية، ثم زنوا كل حرف في الدراستين بمثقال من الذهب عالي العيار لتعرفوا كم الملايين التي دفعت فيهما. يقول المعهد الكوري، لا فض فوه، إن اقتصادنا ضخم وإن حجم نمونا أضخم وحجم إنجازنا يعتبر تاريخيا نظرا لضراوة الظرف الإقليمي والدولي، صبرا ليس هذا فقط مما يعلمه طالب الابتدائي، لكن المعهد اكتشف أنه برغم قوة اقتصادنا إلا أن تنميتنا مختلة، اكتشف أيضا أن نظامنا التعليمي لا يمكنه مسايرة عملقة اقتصادنا. أليست هذه معلومات يتحدث عنها الإعلام المحلي كل يوم وبإسهاب؟ الإجابة الأمينة تفرض سؤالا آخر، هل كان الغرض من الدراستين تلميع ما تقوم به هاتان الوزارتان الموقرتان، سؤال أخير إذا أذنتم لي، لوزارة المالية هذه المرة: احتكاما لمبدأ تكلفة الفرصة، كيف وجدت هاتان الدراستان التمويل الكافي وهناك مشاريع تنتظر التمويل، لعل أهمها التوسع في بناء المدارس والمستشفيات. كان يمكن عنونة مقالي بالثقة المفقودة أو المفتقدة، لكني فضلت الغائبة على وزن الفريضة الغائبة، لأن تشجيع الخبرات المحلية وتثمين عملها يمكث في الأرض وينفع المجتمع، هو استثمار ثان لأول تكفل بالتكوين والتنشئة ولا يصح إهمال برعمه بعد أن أينع عودا واستقام غصنا واستوى عطاء، هي فريضة خدمة الوطن فكريا ومهنيا بعقول وأيد وطنية لنستطيع أن نقول بفخر هذا فكر وطني وهذه صناعة وطنية. [email protected]