مما ترويه بعض كتب التراث عن حب عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي للغة العربية وحرصه على سلامتها وخلوها من اللحن، الذي أخذ يتفشى بين الناس في عصره، أنه قال: «إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن، فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض، لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأجيبه إليها، اِلتذاذا لما أسمع من كلامه». قد يطرب البعض وهم يقرؤون كلام عمر هذا، يرون فيه تأكيدا على أهمية اللغة العربية وإمعانا في طلب سلامتها من اللحن أو الخطأ أو غير ذلك من صور الفساد اللغوي الذي يشوه وجه لغتنا الجميلة، لكن من يتأملون في مضمون العبارة قد لا يقبلونها، سواء من ناحية المعنى الذي تنطوي عليه أو من حيث نسبتها إلى عمر بن عبدالعزيز. فهذه العبارة كما تنص، فيها إقرار من أمير المؤمنين أنه يقع في الانحياز المورث مجانبة العدل عند قضاء حاجات الناس، فهو متى نفر سمعه من اللحن المتبدي في حديث صاحب الحاجة صرفه غير مقضية حاجته رغم أنه صادق فيها، وذلك لفرط ما جلبه اللحن في كلامه من أذى ونشاز لم يستطع الخليفة الصبر عليه. وعلى العكس من ذلك صاحب الحاجة المدعي الذي تنساب كلماته فصيحة سليمة فيبادر الخليفة إلى إجابة سؤله وتلبية حاجته حتى وإن لم يكن محقا فيما طلب لفرط ما وقع في نفس الخليفة من لذة السماع. هذه العبارة المنسوبة إلى عمر بن عبدالعزيز، هي في ظني وربما يشاركني الظن آخرون، لا تتناسب مع سيرة عمر بن عبدالعزيز المطرزة بمشاعر التقوى وتوخي العدل بين الناس، فمن الصعب أن يصدق الإنسان أن عمر بن عبدالعزيز يدرك مجانبته للعدل ويقر بوقوعه فيه ثم لا يفعل شيئا لتغييره لمجرد حث الناس على إتقان اللغة وتجنب اللحن فيها، من الصعب أن يصدق الإنسان أن عمر بن عبدالعزيز، مهما بلغ حبه للغة العربية ومهما اعتلت درجة حرصه على سلامتها وخلوها من الفساد، يسمح لنفسه أن تنساق وراء الهوى فيجيب حاجة الفصيح من الناس حتى وإن لم يكن صادقا في حاجته ويرد حاجة من يلحن حتى وإن صدق، وأنه يقدم على ذلك واعيا به مدركا له !!. غني عن القول إن أولئك الذين يوردون هذه العبارة وأشباهها، يوردونها بدافع من الغيرة على اللغة العربية والرغبة في أن تحتفظ اللغة بفصاحتها وجمالها، وهم في سبيل بلوغ هدفهم هذا لا ينتبهون أنهم يهدمون قيمة أخلاقية أهم، هي حفظ العدالة في معاملة الناس وتقديمها على كل شيء غيرها، فنسبة عبارة كهذه معنية بسلامة اللغة أكثر من اعتنائها بتحقيق العدل، إلى عمر بن عبدالعزيز وهو من هو في عدله وتقواه، توحي بأن الحرص على سلامة اللغة يأتي مقدما على تحقيق العدالة وأنه يجيز لصاحب السلطة أن ينحرف عن العدل متى رأى في ذلك ما يحقق غاية يطمح إليها، في ترسيخ جلي للفكرة الميكافيلية الشهيرة (الغاية تبرر الوسيلة) في فلسفة براجماتية محضة، هذه الفكرة ترسخ في الأذهان جواز التغاضي عن العدل متى وجد ما يستدعي ذلك!!.