شارف العام الدراسي على نهايته وبدأت، ككل عام، حفلات التخرج السنوية سواء من الجامعات أو معاهد التدريب المهنية، التي تقذف مئات بل آلاف الخريجين إلى سوق العمل المتخم بغيرهم الذي لم يستوعب بعد من سبقهم، فمن المسؤول هنا عن وأد فرحة هؤلاء الخريجين؟، الجامعات والمعاهد التي خرجتهم دون أدنى مسؤولية عن إمكانية توظفيهم، أم وزارة الخدمة المدنية التي لا تسعفها مسوغات التعيين وإجراءاته أمام هذه الأعداد المهولة التي تفاجأ بها كل عام وكأنها تهبط عليها من كوكب آخر، أم هي وزارة العمل التي مازالت تبحث عن حلول جزئية ومؤقتة لمشكلة دائمة وعاجلة، أم وزارة المالية التي مازالت ترفض استحداث وظائف جديدة بأعداد كافية بحجة وجود بطالة مقنعة داخل الدوائر الحكومية، أم تراه السوق والقطاع الخاص هو المسؤول عن هذه الفجوة بل الجفوة مع الخريجين. كرة الثلج السنوية هذه، التي تتقاذفها الجهات السابقة وغيرها، ستكبر أكثر إذا أضفنا إليها العائدين من الابتعاث، لتشكل أمامنا ظاهرة خطرة اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، هي جيوش المتخرجين من ذوي الشهادات العليا والمتوسطة، وممن قضوا فترات تدريبية طويلة ثم لا يجد أكثرهم فرصا وظيفية في سوق عمل خاص وعام متخم بعمال أجانب أقل كلفة وأقل تدريبا. قد يتبادر إلى الذهن أن عدم تحديد حد أدنى للأجور هو السبب الذي يتيح للقطاع الخاص استقدام أيدٍ أجنبية يمكنه تحميلها ما لا تطيقه اليد العاملة الوطنية، غير أن هذا جزء من المشكلة وليس جزءا من الحل.. جزء آخر، من المشكلة أيضا، يكمن في نوعية الخريج وتخصصه، جامعاتنا مازالت تصر على أنها مسؤولة عن التعليم فقط، وهذه فكرة تجاوزها الزمن، هناك جامعات عالمية ترجئ التخصص الدقيق لطلابها حتى بداية السنة الثالثة لتهيئته للعمل في أكثر من مجال قريب أو بعيد عن تخصصه، وجامعات أخرى تصر على التدريب العلمي لطلابها داخل حرمها ليكون جاهزا لممارسة العمل فور تخرجه.. وكم كنا نأمل أن تنوع وزارة التعليم العالي في إنشاء جامعاتنا الجديدة بدل أن تكون نسخا مكررة من جامعاتنا القديمة فتركز واحدة، مثلا، في علم الطب وتشتهر أخرى بالهندسة والحاسب الآلي وثالثة في الزراعة.. وهكذا. المفترض أن وزارة الخدمة المدنية تعلم أعداد المتخرجين كل عام، والمفروض أن تستحدث شواغر لهم، برنامج جدارة أو محاولات المفاضلة بين الخريجين لا يكفيان لاستيعاب آلاف الخريجين المستحقين للعمل، وبديهي أن كل متخرج مستحق وجدير بالعمل حتى يثبت العكس. وزارة العمل عليها تجاوز فكرة السعودة مادامت لا تستطيع فرضها بأفكار مبتكرة أو بحلول مجربة في دول مجاورة أو بعيدة أثبتت جدواها، برنامج حافز أو التأمين التعاوني وكل ما تحاوله الوزارة قد يكون جزءا من الحل ولكنه ليس كافيا، فهي حلول وقتية والأمر يتطلب معالجة جذرية وتعاونا أكبر مع القطاع الخاص، كالمشاركة في تحمل تكاليف تدريب الخريجين أوجزء من رواتبهم حتى يتم تثبيتهم، والحد من «منح» تأشيرات الاستقدام، وتحديد ساعات العمل لمنع استغلال ظروف العامل الأجنبي. وزارة المالية تتحمل الجزء الأكبر من الحل بعد أن أصبحت الجزء الأكبر من المشكلة وتعددت شكاوى الوزارات ضدها، لعل آخرها وزارة الصحة (الوطن، الأحد الماضي) عليها أن تبادر بمراجعة مقولتها الشهيرة عن تشبع القطاعات الحكومية بالموظفين، هناك قاعدة اقتصادية عامة يعرفها طلاب علم الاقتصاد في سنواتهم الأولى تحتم على كل دولة خلق وظائف جديدة كل عام تتماشى مع نسبة تزايد عدد السكان ونسبة الزيادة في الدخل العام. عليها الخروج من شرنقة الاقتصاد الريعي فالدخل القومي يزيد بزيادة أعداد العاملين في إنتاجه وبتنويع مصادره، القوى العاملة وتحسين إنتاجيتها يعتبر استثمارا بشريا يزيد من رساخة الاقتصاد ومتانة قواه الداخلية، وإن لم نوظف جيوش الخريجين الآن فقد نضطر، لا قدر الله، للصرف على علاجهم في المستشفيات أو السجون، ولعلكم تذكرون إحصائية وزارة الداخلية التي قالت إن أغلب السجناء عاطلون من ذوي الشهادات. [email protected]