الأمر الثالث الذي نتمم به الفكرة السابقة، هو أن الذين توهموا أن ثمة أعداء للعربية فشنوا الإغارة على هذا العدو المتوهم، هم في الحقيقة الجناة الذين ساروا باللغة إلى حياة استعمالية جائرة السبيل وحائرة الدليل وخائرة العزيمة، فهم أنفسهم يتنادون لتعلم الإنجليزية وتعليمها لأولادهم قبل العربية، كما يتناسون هم أنفسهم أن العربية هي التي خدمتهم لينصبوا من أنفسهم حماة ذائدين عن حياضها ويتوشحون بمئزر خدمتها! لأن اللغة استعمال، لا يمكن أن تصنع في مختبر أو ملتقى أو مؤتمر أو ورشة عمل ويفرض على الناس تعلمها، ولا أدل على ذلك من فشل سياسةالمجامع اللغوية. كما أن العربية ليست قواعد جامدة هامدة يقوم بتدريسها شيخ مسن يتقعر بعبارات يلوي بها لسانه ويقوده بطن يغطى عنه جزءا من موطئ قدميه، كما يرسمها المسلسل العربي الشهير: (رمضان أبو العلمين حمودة) وليست أيضا تجارة أو مؤسسة نروج لها، لنكسب المزيد من المقبلين على سوقها؛ وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى من يخدمها ولا في حاجة إلى من يحميها؛ لأنها خدمت ذاتها وحمت نفسها قبل أن يلوح في أفقها برق هذه المؤسسات الخلب، فإذا كان عمرها الكتابي أكثر من أربعة عشر قرنا، وعمرها الاستعمالي قبل ذلك بمئات السنين، وأكثر من يتبنون خدمتها وحمايتها قريبا طرت شواربهم، فإنه يحق لنا عقلا أن نسأل: من يخدم من؟ اللغة العربية كيان حضاري وإرث إنساني ضخم لا يمكن أن يمسه الضعف إو ينتابه الفتور أو تلغيه أجيال في مرحلة معينة، ولهذا لا أجد مسوغا لمفردة (خدمة)؛ لأن اللغة ليست يافعة تحتاج إلى التوجيه والتكوين، وليست كهلة تحتاج إلى العناية والرعاية، بل هي منتج بشري استعمالي بالغ أشده، يستند إلى رصيد تأريخي طويل، وهي خلال كل هذا التاريخ تفاعلت مع كل اللغات التي عاصرتها، فارسية وهندية وعبرية، وصارت لغة ثقافة وحضارة تجاوزت حدود العرب، إلى الفرس والكرد والترك والبربر والزنج وكل الشعوب والأمم في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وكتب بها المسلمون واليهود والنصارى وأصحاب كل الملل والنحل، (وهذا قاله قبلي كثيرون) وهي لغة تعايشت مع كل الأجناس التي تواصلت مع الأمة العربية شفويا وكتابيا، بل نقل لنا أن المثقف الأوربي في القرون الوسطى الذي لا يعرف العربية لا يعد مثقفا، كما أنها تفاعلت في العصر الحديث مع لغات المستعمرين الكبار (فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا)، على الرغم من محاولتهم عن قصد وترصد إلى إضعاف الثقة فيها، وعملوا على تهميشها وإقصائها، ومثلهم عمل الأتراك فترة طويلة من حكمهم البلاد العربية، وكل هذه المحاولات لم تفلح في اجتثاثها أو القضاء عليها؛ لقوة حضورها ومقدرتها وخبرتها في مقاومة كل عوامل التهميش، ولم تكن تنتظر جيلايقيم لها المراكز وورش العمل والمؤتمرات لتسند إليه مهمة حمايتها وخدمتها، ولو نظرنا لواقعها لألفيناها تشهد انتشارا وازدهارا لم تشهده في كل تاريخها، وهذه وقائع لا أوهام لكن مشكلتنا أننا اغتررنا بما يطرح من شكاية من اللغة، فانبرى أكثرنا رغبا أو رهبا يعزف على هذا الوتر يرى من نفسه حاميا ومكافحا ومنافحا ومعالجا لمشكلات اللغة (المتوهمة طبعا) متناسين أن في لغات العالم كالصينية واليابانية والروسية ماهو أصعب من العربية ومع هذا لم يلجأ أهلها لإنشاء مراكز وعقد مؤتمرات لخدمتها خوفا عليها؛ لأنهم يدركون ما لفعلهم هذا من أثر على أجيالهم، وأنهم سيرسخون في أذهان أجيالهم عدم الثقة فيها أوتسريب القناعة بأنها لغة هرمة أو عصية على الفهم أو من بقايا الماضي، ويدركون أن منتجهم الصناعي سيحمل لغتهم إلى كل العالم؛ لأن اللغة استعمال لا يضرها ولا يضيرها انتقاص أحد لها، فلم يضر الإنجليزية أن هزأ بها (برنارد شو) وأوصى بنصف ماله لإصلاحها، لأنه لم يستطع كتابة شعره إلا بها.. بقي أن أجيب عن السؤال الآتي: ما مكمن القوة في اللغة الذي يغنينا عن أن ننصب من أنفسنا خدما للغة العربية؟ وكيف؟ وهل ما أكتبه هنا يعني التخلي عن كل الهيئات والكليات والمراكز التي تعنى بالعربية وتقوم على تعليمها؟ الإجابة في اللقاء القادم بحول الله. * رئيس نادي جدة الأدبي [email protected]