استجابة لرغبة عدد من القراء، أستكمل اليوم أيضا مقال الأسبوع الماضي عن مدينة جدة الحبيبة. هذه المدينة التاريخية التي رأت أيام العز، ثم عاشت أوقات الشدة، ثم عاصرت أوقات الرخاء، حتى وصفها البعض بجدة، بلد الرخا والشدة. مدينة وديعة احتضنت القريب والبعيد، وأطعمت الصالح والطالح، ورحبت بالغريب واحتفت دائما بزوار بيت الله من الحجيج والمعتمرين. مدينة عريقة بدأ تاريخها قبل بزوغ فجر الإسلام، ترفعت عن بذاءة المتهجمين، وابتسمت للمتجهمين، وقابلت الإساءة بالإحسان والجهالة بالصبر، وبقيت شامخة رغم عقوق البعض وتجنيهم عليها. حاول بعضهم التهكم بتسميتها (دهليز) مكة، أي مدخلها، وهل هناك أشرف من كونها مدخل الحرمين الشريفين؟ لم أعرف جدة عندما كانت مقيدة ومحصورة داخل سورها (أزيل عام 1947م)، بل بدأت في التعرف على ملامحها وأنا ولد صغير بعد إزالة سورها الذي كان يحيط بها، وبواباته الجميلة. كانت مدينة صغيرة حالمة، يسكنها مجتمع نقي متجانس رغم تنوعه وتعدد خلفياته وتباين اهتماماته ووظائفه، موزع على ثلاث حارات سكنية جميلة ناعسة، هي حارة الشام، وحارة اليمن، وحارة المظلوم. وكانت حارة البحر الشهيرة ما هي إلا جزء إداري من حارة اليمن، وتتبع لها. أما جغرافيا فكانت الحارات الثلاث متلاصقة ومتلاحمة، فقد كانت مساحة جدة القديمة داخل السور لا تزيد على كيلو متر مربع واحد تقريبا. لذلك يندر أن تجد في جدة القديمة عوائل غير متقاربة أو متراحمة أو متناسبة، فقد كان التزاوج بين تلك العائلات أمرا طبيعيا، بل إنه امتد إلى عوائل كل من مكةوالمدينة وعسير والطائف، وغيرها من المدن والمناطق المجاورة. عرفتها عندما كانت نبع التمدن والحضارة، ومنارة العلم والمعرفة بمدارسها التي كانت من أوائل المدارس في شبه جزيرة العرب، فكان يقصدها طلبة العلم ومحبوه من كل صوب، من الجنوب والشرق والشمال. غادرتها وأنا ما زلت صغيرا لأدرس في مدارس بلاد عربية مجاورة، وعدت إليها وأنا على مدخل الشباب فوجدتها تغيرت قليلا ونضجت كثيرا، وكأنها تحضر نفسها بتحفز لانطلاقة جامحة لا يحدها مكان ولا زمان. هاتفني ابني الأصغر قبل أيام متسائلا، أنا وأصدقائي لا نعرف الأماكن التي كتبت عنها، لا نعرف حارة البحر أو حارة الشام، نحن نعرف الروضة والكورنيش وأبحر، ومنتزه النخيل وستاربكس. وذكرني هذا بإحدى ليالي رمضان قبل أكثر من عشرين عاما، حينما أخذت ابني الأكبر في جولة رمضانية داخل مدينة جدة التاريخية (البلد)، ووقفت معه أمام أحد المنازل القديمة، وأخذت أشرح له تفصيلة المنزل من الداخل والخارج، ووظيفة الرواشين والأعمال الخشبية الجميلة في واجهات تلك المنازل، ومصادر الحجارة المنقبية التي بنيت بها جميع مباني جدة القديمة وكيف كانت تقطع إلى مكعبات صغيرة صالحة للبناء، ثم كيف كانت ترص فوق بعضها في طبقات متوازية لبناء هذه المنازل المرتفعة لعدة طوابق، وطرق معيشة العوائل وعاداتها داخل منازلها، والألعاب التي كان الأولاد والشباب يمارسونها في ليالي رمضان في حارات وبرحات جدة القديمة. وانتبهت إلى ابني وهو يتطلع إلي في فضول ويبتسم ثم يسألني كيف كنا نضع المكيفات في هذه المنازل!! سؤال بريء ولكنه يوضح الفرق بين الأجيال. ذكرتني مكالمة ابني الأصغر بما كتبه السيد صالح العمودي أنه «من الصعب على جيل اليوم أن يقف على كل الحقيقة التي ينطوي عليها (الزمن الجميل) .. فهناك بون شاسع بين ما نعيشه اليوم وبين ذلك الزمن الذي يتحدث عنه أهل جدة القديمة ويجترون به ما بقي من حكايا وذكريات .. وقد يتمادى بهم الشوق إلى ذلك الماضي البعيد فيقفون على أطلاله في المنطقة التاريخية عسى أن تهب عليهم نسمات البساطة والخير والناس الطيبة». وللحديث بقية. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 129 مسافة ثم الرسالة