أعود مرة أخرى إلى قضية المثقف والشيخ وعلاقتهما في المجتمع. تلك العلاقة التي يحظى بها الشيخ بمكانة عالية جدا على المثقف؛ بل يمكن القول: إن المثقف لا يشكل أي قيمة بالنسبة لتأثير الشيخ على المجتمع، وينحصر تأثيره على مجموعة من هواة الثقافة والأدب أو غيره، في حين أن الشيخ يصل تأثيره إلى ربات البيوت والشباب والأطفال والكهول وغيرهم. أحد الأطفال من أقاربي ذكر لي مرة أن أمه كانت غاضبة مني لأني كتبت عن خطأ شيخ ما في السعودية، وتظنني هاجمته أو انتقصت من قدره في حين تجاهلت الأم الفاضلة تماما ما فعله الشيخ، وكأن ما فعله لا يشكل أدنى شيء في نقدي له، رغم أنني لم أنتقد أحدا بالاسم، وإنما حللت الموقف الاجتماعي من خطأ الشيخ الذي يتشابه مع موقفها. هذا نموذج بسيط جدا على تأثير الشيخ وتأثير المثقف حيث يقبل من الشيخ مالا يقبل من المثقف. أخطأ حمزة كشغري على مقام النبوة فثارت ثائرة المجتمع، حتى بعد إعلان توبته وندمه قبل القبض عليه، فلم يتم قبولها من قبل المجتمع وطالبوا بإقامة الحد عليه، وتصدر هذا الرأي الشيخ محمد العريفي ومجموعة غيره، بل لم يصل هذا الأمر إلى كشغري نفسه؛ بل تعداه إلى التشكيك في قطاع عريض من المثقفين، وتمت مطالبة كل من له صلة من قريب أو بعيد في التأثير على ذلك الشاب، وحتى أولئك الذين قبلوا توبته من المشايخ المعتدلين تم التشكيك فيهم، والذين لم يدافعوا أو يدلوا برأيهم في المسألة، وكأن الإيمان هو في رفع الصوت والتهييج الجماهيري في قضية حسمت من البداية، ووصل خبرها أقاصي العالم. وعلى طريقة مقولة «على الباغي تدور الدوائر» دارت القضية ليخطئ الشيخ العريفي في مقام النبوة خطأ فادحا لا يصدر من شيخ عالم في كثير من قضايا الدين وداعية له تأثير كبير على جمهوره، وقدم اعتذاره بعد ذلك. لست مهتما هنا في الحديث عن الخطأين، فالجميع يخطئ ويعتذر، وليس أحد معصوما من الخطأ، وفي كلتا الحالتين حصل الخطأ، وحصل الاعتذار، مع فارق في حجم الخطأين وحجم الاعتذارين، ولا أضع مقارنة هنا، فالمسألة خارج رؤيتي في القضيتين. ما يهمني هنا هو قراءة حجم ردة الفعل الاجتماعية في الموقفين، فخطأ كشغري لم يكن كخطأ العريفي لدى الناس، فإن كانت ردة الفعل على الأول مبالغة جدا إلى درجة المطالبة برأسه، فإن ردة الفعل على الثاني لم تكن واحدا بالمائة من ردة الفعل على المشكلة الأولى، إذ لم يسمع بها أحد من العامة، ولم يصل صداها إلى أحد من الناس غير المشتغلين بالمسألة الدينية أو الثقافية، وانحصرت ردة الفعل هذه على الخطاب المناهض ل «خطاب العريفي» ولا أقول: «الخطاب الديني» لأن العريفي يمثل خطابا دعويا خاصا داخل الخطاب الديني، وهي مفارقة عجيبة في حجم المسألتين في قضية متقاربة في الخطأ على مقام النبوة. ولا أتمنى من أحد أن يفهمني هنا بأنني أطالب بمحاكمة العريفي، لأن المسألة عندي ليست صراعا ثقافيا، فهي خارج اهتمامي في هذا المقال، وإنما هي قراءة سوسيوثقافية لمدى حجم تأثير الخطاب الديني الوعظي ورموزه بالمقارنة مع حجم تأثير الخطاب الثقافي؛ فضلا عن أن المطالبة بالمحاكمة هي من قبيل المطالبة بوجود محاكم تفتيش التي لن يسلم منها أحد لو طبقت على جميع الخطابات للمزايدات الدينية والوطنية التي تتبادلها الأطراف المتخاصمة. برأيي إن المسألة ليست دينية خالصة كما كررت ذلك في أكثر من مقال، وإنما هي احتراب ثقافي، وتصفية حسابات، وتحزب سياسي يحمل عليها المجتمع بأكلمه واللعب على وتر الحفاظ على الهوية من قبل المجتمع هو ما يجعل خطأ الشيخ مبررا في حين أن خطأ المثقف كارثة يجب القضاء عليها.. إننا أمام مشكلة ثقافية حقيقية حيث يتم رفع أناس إلى مراتب عليا دينيا لمجرد ضربهم على وتر العاطفة الدينية دون تقديم رؤية متأصلة، وخفض آخرين ربما يكونون أقدر على تقديم صورة مستنيرة وحضارية عن الدين؛ فقط لأن الأول يقدم صورة تقليدية مقاربة لأذهان العامة، في حين أن الثاني يعطي رؤية يصعب فهمها لتأصيلها الفكري دون العاطفي حتى لو كانت أكثر تأصيلا من الناحية الدينية.