رغم انشداد البشر إلى أماكن ولاداتهم الأصلية تشدهم بالمقابل رغبة ملحة للانعتاق من هذه الأماكن والذهاب بعيدا في العالم، حيث تلفحهم رياح مجهولة المصدر وتشع فوق رؤوسهم شموس محملة بالوعود، كان الإنسان بهذا المعنى يتأرجح دائما بين الشيء ونقيضه وبين النوازع وأضدادها. ثمة في داخله ما يتصل بالرحم الذي انبثق منه، وبنداء الجذور الضاربة في الأعماق والتي تضيف المسافة بينه وبين الأشجار إلى حد التماهي. وثمة على الطرف الآخر ما يجعله شبيها بالريح التي لا وطن لها والتي لا تحسن سوى الهبوب فوق الأماكن حتى إذا توقفت عن الحراك آلت إلى الضمور والاضمحلال. كان الشعر، والفن بوجه عام أسير تلك المفارقة القائمة بين الداخل والخارج كما بين السفر والإقامة. وظل الشعراء ينتصرون لهذا تارة ولتلك تارة أخرى. وأحيانا ينتقلون هم أنفسهم من خانة إلى خانة دون أن يعرفوا طريقا إلى الاستقرار. إنهم يحنون إلى المنازل القديمة التي شكلت امتدادا لأجسادهم الطافحة بالرغبات فيقول أحدهم «لك يا منازل في القلوب منازل» ويقول الآخر «كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبداً لأول منزل» ثم ما يلبث أحدهما أن يقف على الضفة الأخرى ليعلن «على قلق كأن الريح تحتي» ويذهب الآخر للقول «وطول أناة المرء في الحي مخلق/ لديباجتيه فاغترب تجدد». كل من الإقامة والسفر حملا الشعراء والفنانين على رفد مخيلاتهم بأنبل المشاعر وأرق الأحسيس وأكثر الصور جدة وفرادة. وكل منهما يتماهى من جهته مع جوهر الإبداع الذي لا بد له أن يتأصل في تربته المحلية إذا ما أراد له المبدعون أن يعانق المطلق الإنساني. فأن تكبت يعني أن تسافر باللغة بعيدا عن الدلالة الأولى للكلمات، وأن تهاجر عبر الاستعارة والكناية والمجاز إلى المجهول الذي تنتظرك فتنته الباهرة عبر أرض مأهولة بالمشقات. صحيح أن الحبل الذي يربطك إلى لغتك الأم ليس له أن ينقطع أبدا لئلا تصبح منبتا عن أية هوية وشريدا بين لغات الآخرين، ولكن الصحيح أيضا أن لا هويات صافية في عالم اليوم وأن الآخر ليس بالضرورة أن يكون الجحيم، وفق سارتر، بل هو المحاور والمكمل لما يعتورنا من نقص. «أنا آخر» يقول رامبو، ولكن لكي أكون كذلك ينبغي أن تقف الأنا فوق أرض حقيقية وراسخة الجذور وإلا تحول السفر إلى منفى، والتأثر بالآخر إلى استلاب والهجرة إلى اقتلاع استئصالي لكل ما يربطنا بالوجود من وشائج.