المؤشرات الأولية للربيع العربي تفصح عن مأزق تاريخي، فالدول التي ذاقت قسوة هذا الربيع تعيش حالة من الفوضى والصراع، والتغيير فيها مازال قابعا في الإشكال والصور، وبآليات ملامحها الأولية تؤكد أنها تعيد إنتاج الواقع نفسه بمظاهر مغايرة للحلم الذي يراود الجيل الجديد، ومكمن هذه الإشكالية أن الربيع العربي طفرة أنتجها واقع مؤلم، يتحرك بلا مشروع واضح. لقد حدثت الطفرة بشكل مفاجئ، وتحركت في فراغ فهي لم تؤصل لنفسها في رؤية كلية مستوعبة للواقع وحاجاته، ومن ناحية أخرى فإن ربيع العرب يتداخل مع الصراع العالمي الحالي والمستقبلي، ولأن التغيير مخنوق في بؤرة صراع النخب فقد تم التحكم في الجمهور وجعله يعتقد يقينا أن سيطرة حلقة حاكمة ضيقة هي جوهر المشكلة فركز الحراك على إسقاط الرموز، وشكل رحيل رأس النظام والدائرة المرتبطة فيه الإنجاز الثوري الأكثر دراماتيكية وهذا منح الجمهور شعورا بالنصر. هذا الشعور جعل الجماهير تقع أسيرة للنظام الذي أرادت التحرر منه بوجهه المعارض والحاكم، ولأن المعارض بلا مشروع واضح فهو يعيد صياغة تحالفه مع النظام السابق، ويعمل الوجه المعارض على إعادة تركيب القوة بحيث يتمكن من فرض هيمنته على المجتمع بوعي وأدوات النظام نفسه الذي لم يسقط أصلا. الحراك الجماهيري الذي أنتجه ربيع العرب سديمي وقلق ومائع ولا وجه له فغرق في شعارات ومقولات عامة لتفوز القوى المنظمة الحاكمة والمعارضة مع تحويل جزء من النخبة إلى كباش فداء، ونرى أن المجتمع العربي لن يخرج من أسر الواقع الراهن وإثقال التاريخ ما لم تكن هناك ثورة ثقافية تنويرية، فالتغيير الحالي رغم مظاهره الديمقراطية إلا أنه يؤسس لشموليات مزينة بالحرية، والصراع في بنيته مازال قائما على مستوى الفكرة والرؤية وطبيعة المستقبل المراد تحقيقه، وعلى مستوى المصالح المادية، واحتمال كبير أن تدخل دول الربيع العربي لمدة عقد أو عقدين في فوضى قد تعمق الانقسام المجتمعي وتزيد من هشاشة الدولة وضعفها وتبعيتها للخارج. • رئيس مركز الجزيرة للدراسات صنعاء