لا يمكن لنا أن نتحقق من علاقة المثقف بالمتغيرات التي عصفت بدول وشعوب عربية فأسقطت حكومات، ونحت زعامات ما لم ننزل تلك المتغيرات منزلتها من حيث إنها محصلة لوعي الشعوب العربية بما لها من حقوق ظلت غائبة أو مغيبة عنها قابلة بالرضوخ لأنظمة تصادر حريتها، وتساومها على أمنها وتبتز منها قوت يومها. وإذا كانت هذه المتغيرات، أو على نحو أدق الثورات التي شهدتها عواصم عربية عدة، محصلة لوعي جمعي بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة، وحق المشاركة وسيادة القانون والتوزيع العادل للثروة حق لنا أن ننظر إليها على اعتبار أنها ثورات ثقافية في جوهرها مادامت منبثقة من إطار قيم ثقافية أصبحت من مسلمات الفكر السياسي المعاصر وتهدف إلى أن يكون كل ما يتم إنجازه لصالح حرية الإنسان وكرامته حقا مستحقا لكل إنسان فوق هذه الأرض بصرف النظر عن غنى بلده أو فقرها، وتقدم بلده أو تخلفها فالعدالة والحرية والمساواة وسيادة القانون لا تخضع لمعايير التقدم والتخلف أو الغنى والفقر. وعلى الرغم من اعتدادنا بهذه المتغيرات باعتبار أنها ثقافية في جوهرها إلا أن العلاقة بين هذه المتغيرات والمثقف بالمفهوم الذي اعتدنا أخذه فيه تظل علاقة غامضة ذلك أن المتغيرات نبعت من قلب الشارع العربي، وجاء موقف المثقفين تاليا لها وانقسموا بين معضد ومؤول ومبرر ومنتهز، ولعل كثيرا منهم لم يفصح عن موقف حتى تبين له ميل كفة الميزان فسعى أن يكون مستفيدا من الثورة كما كان مستفيدا قبلها من النظام، وأوشك تقاسم الأدوار في كثير من الأحيان أن يكون وقود الثورة هم الجماهير التي كانت تتدفق في الميادين، وأن يكون واجهات القنوات الثقافية هي ميادين المثقفين. كانت الثورات العربية إذن ثقافية غير أن الثوار لم يكونوا المثقفين، إلا إذا ما اعتبرنا المواطن العربي الذي أدرك حقوقه وخرج يطالب بها هو المثقف المتطلع للتغيير والقادر على تحقيقه. لقد مرت عقود من الزمن ظل فيها المثقف العربي قابعا في كرسي التنظير والتبشير منعزلا عن القوى القادرة على التغيير، أو معزولا عنها حتى مكنت ثورة الاتصالات ومعجزات التقنية الحديثة وإمكانات الإعلام الجديد، وما حققه ذلك كله للمواطن العربي من وعي لم تكن الأنظمة قادرة على استيعابه فضلا عن التجاوب معه ومجاراته عندها أصبح بإمكان الشرارة التي أحرقت جسد مواطن أن تكون شرارة للثورة، وأصبح نجاح الثورة في بلد أنموذجا لنجاح ثورات مماثلة في بلدان أخرى. إن الربيع العربي الذي أسقط على المستوى السياسي أنظمة لم تفقه ما للمواطن من حقوق، واكتفت بأن تملي ما عليه من واجبات يحمل بشارات ربيع آخر على المستوى الثقافي لا يقل عنفا عن الربيع الذي شهدنا منه طلائعه وإن لم يفقه المثقفون ذلك فإن مصيرهم لن يقل بؤسا عن مصير تلك الزعامات التي لم تفقه ما يريده المواطن العربي. إن على المثقف العربي أن يدرك جمهوره الذي يتحدث إليه وإذا كان هذا المثقف قد توهم دهرا أنه بحاجة إلى أن يهبط من عليائه إلى مستوى الجمهور فإن عليه أن يدرك بعد هذا التغيير أن عليه أن يجهد لكي يرتقي إلى مستوى هذا الجمهور. وعلى المثقف العربي أن يدرك أن هذا الجمهور لم ينقم على أنظمته شيئا كما نقم عليها إن حرمته من أن يكون إنسانا يتمتع بما تتمتع به شعوب أخرى من عدالة ومساواة وكرامة وعليه إن أدرك ذلك أن يدرك أن أولى واجباته أن يكون عونا لهذا الجمهور في التواصل مع المنجز الإنساني، ومعينا له في كيفية استثماره لكي يتحقق له المزيد من قيم العدالة والمساواة والقدرة على المشاركة وتفهم سيادة القانون. بعد هذه الثورات العربية علينا أن ندرك أن المثقف الذي لا يشارك في كتابة المستقبل سوف تدونه الشعوب العربية في صحائف الماضي وتمضي في طريق مستقبلها صانعة من بين صفوفها مثقفيها الجدد الذين يدركون ما تريد ويعرفون ما لا تريد. [email protected]