أكد صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة أن الجميع مسؤولون عن تأصيل الاعتدال فكرا، وعلما، وعملا، ومنهجا والتصدي لمحاولات اختطاف المجتمع يمينا أو يسارا عن هذا الوسط العدل الذي جاء به ديننا الإسلامي الحنيف وقامت عليه الدولة السعودية منذ تأسيسها جاء ذلك خلال المحاضرة التي ألقاها الأمير خالد في الجامعة الإسلامية بحضور صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن ماجد أمير منطقة المدينةالمنورة وعدد من المثقفين والأدباء والطلاب، ولخص الأمير خالد رؤيته لحماية الاعتدال وأهم تطبيقاته في سياسات المملكة الخارجية والداخلية في عدد من النقاط المحددة. الأمير خالد استهل محاضرته قائلا: «يسعدني أن أستهل حديثي إلى جمعكم الكريم، بالشكر والتقدير لهذه المنارة العلمية السامقة، ولكل القائمين عليها، وعلى رأسهم الشيخ الدكتور محمد بن علي العقلا مدير الجامعة، على تهيئة هذا اللقاء المبارك. وأضاف الأمير خالد «منذ أكثر من عامين، التقيت بهيئة التدريس والطلبة في جامعة الملك عبدالعزيز، على موضوع «منهج الاعتدال السعودي» الذي يعني المواءمة والموازنة بين التمسك بآداب الدين والقيم الإسلامية من جهة، والاستفادة على الجانب الآخر من المكتسبات الحضارية العالمية، بضوابط تلك القيم. واستطرد قائلا: «ثم تشرفت باستحداث كرسي بحثي في الجامعة، لتأصيل هذا المنهج: سياسيا واقتصاديا، وتاريخيا، واجتماعيا، وثقافيا، وتنفيذ برنامج توعوي لنشر ثقافة الاعتدال». وأضاف الأمير خالد «وقوفي بينكم معاشر العلماء والباحثين، ليس ادعاء مني بالعلم، وإنما ينطلق من شعور المواطن الغيور على وطنه، وإحساس المسؤول عن ثغر من ثغوره». التزام العدل الأقوم وأضاف «لو أسعفني الوقت، ما وفرت فرصة في طول البلاد وعرضها، إلا واصلت مسعاي في هذه المهمة الجليلة، استشعارا بأننا جميعا مسؤولون عن تأصيل «الاعتدال» : «فكرا، وعلما، وعملا، ومنهجا، والتصدي لمحاولات اختطاف المجتمع يمينا أو يسارا عن هذا الوسط العدل، الذي جاء به ديننا الإسلامي الحنيف، وقامت عليه الدولة السعودية منذ تأسيسها الأول». وتابع أمير مكةالمكرمة «قد طرحت مصطلح (منهج الاعتدال السعودي) وأنا أعنيه تماما، فهو منهج لأنه ثابت، وهو اعتدال بمعنى التزام العدل الأقوم، والحق الوسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير». وأوضح الأمير خالد أنه وصف الاعتدال بالسعودي، لأن المملكة العربية السعودية قد (انفردت) على الساحة الإسلامية، ببناء دولتها على شرع الله وحده في الكتاب والسنة، مبينا «أن الإسلام كما هو معلوم خاتم الرسالات السماوية، قد جاء وسطا عدلا بين كل طرفين خارجين عليه: فهو وسط بين الانجراف في المادية، وبين الاستغراق في الروحانية، مبينا أن هناك فريقا لا يقل خطرا على هذا المجتمع، يحمل لافتات: كسر القيود، والخروج على المألوف، والحرية المطلقة، ويركب موجة الانسلاخ عن قيم الإسلام، ويعتمد نقل النموذج الغربي، دون سبر جوهره وفلسفته، وكانت بزعمهم سببا في النجاح الذي حققه، ومن ثم (ينصحوننا) أن نأخذ بتجربته حزمة متكاملة، دون النظر إلى خصوصيتنا». وأشار الأمير خالد إلى أن كل هذه الادعاءات باطلة، موردا الأسباب والقرائن التي حددها قائلا: أولا: لأن الإسلام دين ودنيا، لم يقتصر على تنظيم العلاقة بين الإنسان وبين خالقه فحسب، بل نظم أيضا كل التفاصيل في حياته، وأسس لعلاقة الفرد بالفرد، وعلاقته بالجماعة، على نحو لا يشوبه خلل أو قصور. ثانيا: لأن إنكار خصوصية هذه البلاد، باطل وعار عن الحقيقة تماما، فهي بلد الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي بآخر الرسالات، وبلسانها العربي نزل آخر الكتب السماوية، ومنها بعث خاتم الأنبياء والرسل عربيا، وقد شرفنا المولى جل وعلا بجوار بيته العتيق، ومسجد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبخدمة ضيوفه من الحجاج والمعتمرين والزوار، لذلك فإن هذه البلاد وإنسانها، على رأس المكلفين بتبليغ الرسالة ونشر الدعوة. وأضاف الأمير خالد «برأيي أنه في خضم الأحداث الراهنة في الوطن العربي، والنتائج الأولية التي تشير إلى التوجه الإسلامي في الكثير من بلدانه، ما يؤكد أن الثورات العربية الحالية، تختلف عن الثورات الأوروبية في العصور الوسطى، حيث قامت الثورات هناك ضد الكنيسة، بينما تقوم هنا الآن لصالح المسجد، وهذا يحتم تقديم «منهج الاعتدال السعودي» نموذجا ناجحا للدولة الإسلامية، المتمسكة بالقيم الإسلامية، والمنفتحة على المكتسبات العلمية والحضارية للعصر، فيما لا يتعارض مع جوهر الإسلام وقيمه. مشروع الإصلاح وأشار أمير مكةالمكرمة أن مسؤولية المملكة قيادة وشعبا تبرز في مواصلة نجاح النموذج وتطويره، عبر مشروع الإصلاح. ثالثا: ليس في الإسلام ما يدعو إلى التخلف، فهو الدين القائم على جناحي استخلاف الإنسان على الأرض: عبادة الله وحده جل وعلا ، والعمل على تطوير الحياة وترقيتها، ونستطيع أن نقدم التجربة السعودية، تطبيقا حيا لهذه النظرية الإسلامية، لندلل على أن التخلف لا دخل للدين فيه، وأنه محض صناعة بشرية، فالإسلام ليس دين تخلف وقعود، وإنما هو دافع قوي للتقدم والتطور. رابعا: إن العصر الإسلامي المزدهر، قد قدم أول نظام عولمي إيجابي، وحد البشر في دولة عظمى، ينعم فيها الجميع بالخير والعدل، بينما عولمة اليوم قد تحمل بعض النفع، لكنها لا تخلو من أثر سلبي في بعض تطبيقاتها. خامسا: إن الأفكار لا تنقل كالأحجار، ولا تفرض فرضا خارج مواطنها، دون احترام للقيم والخصوصيات المتباينة، لأن المنتج الفكري لا يخضع للمقاييس نفسها التي تطبق على المنتج المادي. سادسا: إن قيم الغرب التي يتغنى بها هؤلاء من عدل ومساواة وحرية وما إلى ذلك، قد جاء بها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا فهي ليست اختراعا غربيا أو شرقيا. واستطرد الأمير خالد في محاضرته مؤكدا أن قارئ التاريخ يدرك أن الدولة السعودية، منذ «الحركة الإصلاحية التجديدية» التي قامت مراحلها الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبدالوهاب، قد اعتمدت منهج الاعتدال السعودي الذي يدل عليه توصيف الحركة في المصطلح التاريخي، ولم تحد عنه طوال مسيرتها، وعلى هذا الأساس، انطلق الملك عبد العزيز بعد التوحيد إلى تنمية البلاد، وتطوير المجتمع البسيط آنذاك، إلى مجتمع عصري متحضرا، على أساس منهج الاعتدال السعودي. ثم إنه حين رأى في الحرم المكي منابر متعددة، وكل يصلي وراء إمامه حسب مذهبه، وحدها في منبر واحد، وعين شيخا مصريا شافعيا إماما للحرم المكي، وقبل قيام جامعة الدول العربية بسنوات، كان الملك عبدالعزيز قد أسس مجلسا استشاريا ضم نخبة من المفكرين العرب إلى جانب السعوديين، ليتواصل بذلك منهج الاعتدال السعودي، فلا تعصب ولا تشدد، ولا بأس أن نستفيد من كل فكر لا يخالف شريعتنا، لكن الفكر الرافض لم يهادن، ولا هادنته الدولة أبدا، ففي عهد الملك سعود يرحمه الله بدأ فتح المدارس للبنات، رغم اعتراض البعض، الذين هم اليوم أول من يطالب بإلحاح لتعليم بناتهم، ولم يوقف الاعتراض المسيرة، فقد تصدى الملك فيصل يرحمه الله وبقوة لاعتراض الرافضين، وواصل فتح مدارس البنات، وحماية الطالبات من اعتراض طريقهن وتهديدهن، كما أدخل التلفزيون رغم اعتراض البعض أيضا. مواجهة الحملات وأضاف الأمير خالد الفيصل «كان المد الشيوعي في أوجه، قد غطى معظم الساحة العربية، وجرت محاولات نقله إلينا، لكن المملكة هي الوحيدة التي صمدت أمام الهجمة، وتمسكت بدينها الحنيف، بكل إصرار وعزم وثبات، رغم الحملات الإعلامية الشرسة، التي تصاعدت إلى الحرب المسلحة، وانتصر فيصل على تطرف الداخل والخارج، ومضى إلى حركة تطوير شامل، باستكمال إنشاء المؤسسات الحكومية والاجتماعية وتنظيم البنوك، وتحرير الرق، فيما عرف حينذاك بالنقاط العشر التي طرحها الملك فيصل لتنظيم الحكم. ولم يستكن التطرف، بل عاد لمحاولاته في عهد الملك خالد يرحمه الله بحركة جهيمان، التي هددت الطفرة الاقتصادية والتنموية، التي عاشتها المملكة آنذاك، ومرة أخرى ينتصر منهج الاعتدال السعودي، فيقضي على المجموعة التي احتلت الحرم، ومنعت الصلاة فيه لعدة أسابيع. وعاودت جذور الفكر الكامنة انطلاقها مجددا في عهد الملك فهد يرحمه الله ولكن بتناغم عجيب بين تيارين: المتطرفين التكفيريين في الداخل، وصدام حسين بفكره المتطرف الإلحادي، الذي غزا الكويت وهدد دول الخليج على أساسه، وهذا التحالف يؤكد أن التطرف الذي يتزيا بعباءة الدين الإسلامي ليس منه في شيء، وإنما هي أطماع سياسية تسعى للاستيلاء على السلطة، تبنتها كل الحركات المبثوثة في الوطن العربي والشرق الأوسط، وأساءت لنا أيما إساءة لدى العالم أجمع. ومرة أخرى ينتصر منهج الاعتدال السعودي، بإصرار الملك فهد على الوقوف بحزم في وجه الغزو الخارجي، والتيارات المتطرفة الداخلية، حتى تحررت الكويت من عدوان الفكر الإلحادي. ثم جاء عهد الملك عبدالله الزاخر بالخير والتغيير من أجل التطوير، على منهج الاعتدال السعودي، وهو يؤكد هذا المنهج بقوله: «إننا نرحب بعولمة التجارة وبعولمة الاستثمار، ولكننا نرفض عولمة الفكر الفاسد، ونرفض عولمة الانحراف الذي يختفي تحت أسماء براقة». وأضاف «ومع ذلك عاد التطرف الداخلي أشد عنفا: تكفيريا تفجيريا، يجند شبابنا ويلوث عقولهم، ليفجروا أنفسهم بين إخوانهم المسلمين والمقيمين في ذمتنا، ويهددون المجتمع ويحطمون مكتسباتهم الحضارية، ومرة أخرى ينتصر منهج الاعتدال السعودي، وتتفوق المواجهات الأمنية الاستباقية على هؤلاء». وأضاف «لم يكن مستغربا مع ثورة الاتصالات والمواصلات وانفتاح العالم على بعضه البعض، أن يظهر لدينا على الجانب الآخر ذلك التيار المتطرف المستورد، المتأثر بثقافة الغرب، كردة فعل للتيار الأول التكفيري، وكلا التيارين لا يفتأ يحاول خطف منهج الاعتدال السعودي، لكن المملكة رغم هذه التحديات قد استطاعت، بعون الله تعالى، ثم بحنكة وعزيمة قادتها، وإرادة شعبها، الانتصار على التطرف. وأبان الأمير خالد أن خادم الحرمين الشريفين قد فصل في هذه المسألة بقوله «نحن لدينا أهم من البترول: ديننا الإسلام، والكعبة المشرفة، فالعرب لم تقم لهم قائمة إلا بالإسلام، وهو ثروتنا الحقيقية». وخلص الأمير خالد في ختام محاضرته إلى تقديم رؤيته لحماية «منهج الاعتدال السعودي»، قائلا: «اسمحوا لي أن أوجز أهم تطبيقاته، ورؤيتي لحمايته». أولا: في السياسة الخارجية: اتسمت سياسة المملكة منذ أنشأ الملك عبدالعزيز وزارة الخارجية، وحتى يومنا هذا، بالثبات على منهج واحد عنوانه «الاعتدال»، ومن أهم الدلالات على ذلك: 1- إن المملكة لا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها الداخلية، وفي المقابل تلتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير. 2- استطاعت قيادة المملكة منذ تأسيسها تجنيب البلاد ويلات الحرب والمغامرات غير المحسوبة. 3- شاركت المملكة في تأسيس هيئة الأممالمتحدة، وجامعة الدول العربية، وكان لها الدور الريادي في قيام مجلس التعاون الخليجي، وهي عضو في العديد من الهيئات والمنظمات العربية والإقليمية والدولية، وقد توجت مؤخرا عضوا في «نادي دول قمة العشرين» العالمية. 4- تتبوأ المملكة موقعا عالميا مميزا، وتؤدي دورا هاما في نصرة القضايا الإنسانية العادلة. 5- باعتبارها حجر الزاوية في سوق النفط العالمية، انطلقت المملكة في سياستها من رفض الاحتكار. 6- كانت المملكة ولا تزال رائدة الدعوة إلى الحوار والتسامح والسلام. 7- استطاعت المملكة منفردة بفضل منهج الاعتدال، أن تثبت أمام كل التيارات الإلحادية اللا دينية، التي اجتاحت المنطقة العربية. ثانيا: في السياسة الداخلية: بتوحيد البلاد، استطاعت قيادة المملكة العربية السعودية، أن تحقق أنجح وحدة عربية في التاريخ الحديث، وأن تحافظ على ديمومتها واستقرارها، من خلال عدة أمور أهمها: 1- تحقيق العدل: بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع محاكمها، وإخضاع كل أنظمتها لمقتضى الشرع الحنيف. 2- نشر الأمن: بتأمين جميع وسائله وأسبابه للمواطن والمقيم، وللوافدين من ضيوف الرحمن الذين كانوا يعانون شتى أنواع المخاطر قبل قيام الدولة السعودية. ثم إن المملكة واجهت التطرف والإرهاب في الداخل والخارج بكل الحزم، انطلاقا من موقفها الثابت الذي أعلنه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، في اجتماع لجنة متابعة تنفيذ الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب في تونس عام 2000م». 3- نشر المعرفة: بتوفير كافة وسائلها وآلياتها، من خلال افتتاح المدارس والجامعات، وابتعاث ما يزيد عن مائة ألف من أبنائها وبناتها إلى أرقى جامعات العالم. 4- تمكين المرأة وتعظيم دورها كشريك فاعل في تنمية بلادها. 5- التوسع في نظام الانتخاب للمجالس البلدية، والأندية الأدبية، والغرف التجارية، وغيرها. 6- التنمية الشاملة والمستدامة: من خلال خطط خمسية بدأت العام 1391ه، ومخططات إقليمية طويلة الأمد أعدت حديثا لكل منطقة. ثالثا وأخيرا: فيما يتعلق برؤيتي لحماية هذا المنهج: فإنني أعتقد ولعلكم توافقونني بأن كل هذه النجاحات التي حققتها المملكة «بمنهج الاعتدال السعودي» والمكانة السامقة التي تبوأتها عالميا بكل التقدير والاحترام، أهلتها لتكون التجربة الأنموذج المعاصرة لنجاح النظام الإسلامي. وهذا في نظري هو ما جعل الهجمة الشرسة تشتد وتستعر، في الوقت الحاضر على المملكة من أعدائها، الذين هم في الواقع أعداء الإسلام، ممثلا في الدولة الوحيدة التي تطبقه على حقيقته. ولهذا فإن كل من يغارون على الإسلام في كل العالم، ويريدون الخير له، ويحرصون على أن يواصل النظام الإسلامي مسيرة نجاحه، وأن يحصن في مواجهة هذا الهجوم _ المتعدد الجهات_ ضده، عليهم أن يوحدوا صفوفهم مع المملكة، قيادة وحكومة وشعباً لنصرة الدين ونظامه.