انفض الحج وحزمت الحقائب والمنافذ اكتظت بالمغادرين من الحجاج ليعود السكون والصمت لكافة مساحات المشاعر المقدسة التي أضحت فارغة كما كانت قبل مطلع هلال شهر ذي الحجة بعد أن غصت بملايين الأجساد قبل أن تخلو إلا من معدات حديثة بدأت أعمالها التطويرية كما اعتادت كل عام لتهيئ المكان لضيوف العام المقبل فيما بدأ عمل كافة لجان الحج لتقويم تجربة ما مضى والاستفادة منها لصالح مستقبل الخدمات في الأعوام اللاحقة. هكذا ينتهي موسم حج ليبدأ التحضير لموسم يليه وفي كل موسم هناك الجديد والمتجدد الأمر الذي جعل من المملكة العربية السعودية وحدها رائدة بامتياز في مجال إدارة الحشود مثلما كانت ولا تزال رائدة في توفير الأمن والسكينة للمواطن والمقيم والزائر والمعتمر والحاج على حد سواء، فالمنصفون منهم يدركون حجم التضحيات والتفاني والجهد والبذل في توفير خدمات راقية ومتطورة بكل تفاصيلها الدقيقة. في حج هذا العام مثلا أذهلت حزمة الخدمات المسخرة لراحة حجاج بيت الله الحرام القادمين من كل حدب وصوب وأبهجت تلك الرعاية كل من وطئت قدماه ثرى المشاعر المقدسة ولهذا نجح موسم حج هذا العام نجاحا باهرا ولفت الأنظار مستوى الخدمة الصحية التي بلغت حد إجراء مئات عمليات القلب المفتوح لمرضى وصلوا والحاجة ملحه لإنقاذ حياتهم على هذا النحو إضافة لتمريض المحتاجين والتكفل بنقلهم لإتمام مناسكهم بل الأمر تجاوز المأمول في أعقاب تسيير فرق لزيارة المخيمات وتقديم الرعاية لقاطنيها. ولأن المنجز الأمني في مواسم الحج وعلى مدار الساعة من أهم الأمور التي تلفت الأنظار في زمن باتت فيه تلك الحالة ملمحا حضاريا لضرورة ملحة حظيت بالتوافق والإعجاب المشترك فقد جاز لنا تسليط إضاءة يمكن اعتبارها ومضة لإنجاز بحجم وطن يتوق نحو العزة والسؤدد وطن ترفع عن الدخول في مساجلات وخصومات مفتعلة وطن يسير بحكمة المتزن المتأني نحو الصفوف الأولى في عالم لا ينتظر المتأخرين، وطن لا يحاسب الشعوب بجريرة الأنظمة على الإطلاق، فالحرية والطمأنينة مكفولة للجميع دون استثناء ولهذا آثر كل من وطئت قدماه أرض المملكة البقاء لأطول مدة ممكنة دون أن يلحظوا ما يعكر الصفو في وطن استوطنه الكرم وطوقته الشهامة فاكتنز بالعز من الماء إلى الماء. لقد كرست المملكة كل إمكاناتها لراحة ضيوف الرحمن القادمين من جهات شتى المنتمين لثقافات مختلفة وأصول متباينة ولغات عديدة القاطنين بالملايين بقعة صغيرة من العالم في وقت واحد وتحت ظروف معينة ومع هذا تم ويتم لهم ما جاءوا من أجله بكل يسر وسهولة دون إشكالات أو فجائع مع أن كثيرا من الدول قد لا تستطيع أن تسيطر على شغب صغير في مكان محدود، إلا أن الأجهزة الأمنية السعودية استطاعت أن تسيطر على هذا الوضع الاستثنائي كل عام من دون أن تهدر فيه كرامة الإنسان ودون ارتكاب أي نوع من التعدي على حقوقه المكفولة والمصانة وبدرجة مدهشة من الصبر والحلم والتحمل.. فالأمن تحديدا في وطن بحجم المملكة مصدر من مصادر الفخر والاعتزاز، ذلك أن معظم خبراء أجهزة الأمن في دول متقدمة أجمعوا على الإشارة لكفاءة الأمن السعودي في إدارة الأزمات المتوالية التي عصفت بالمنطقة جراء وقوعها وسط منطقة ملتهبة عاشت أحداثا جساما كانت كفيلة بإعلان حالات الطوارئ أو حظر التجول لكن هذا لم يحدث مطلقا، إذ لم تقيد أو تختزل أو تصادر الحريات ولم يتعرض الثبات الأمني لأي نوع من الاهتزاز ولم يتم السعي إلى فرض أي شروط أمنية معيقة على الإطلاق في أي وقت من الأوقات. ففي غمرة تساقط الصواريخ على العاصمة السعودية وأجزاء متفرقة من المنطقة الشرقية إبان أزمة الخليج الثالثة المسبوقة بأزمتين عاصفتين كانت الحياة تسير بطبيعتها وظل الأمن مستتبا وإيقاع الحياة ظل كالمعتاد لم يهتز يوما ولم يضطرب حتى في أصعب اللحظات وأكثرها تأزما كذلك الحال إبان الحروب المتعاقبة في منطقة تموج بالسخونة والنتيجة نفسها تكررت أثناء وبعد الحملات التي شنتها الأجهزة الأمنية على الإرهاب في أعقاب محاولات فاشلة لاختراق قدرة تلك الأجهزة المتيقظة ليظل الأمن حاضرا في كل الحالات شامخا شموخ الوطن. كل هذه الأحداث على ضخامتها مرت دون أن تؤثر على حياة الناس رغم أن جزءا منها كان كفيلا باختلاق برامج تحسب في قائمة الأعمال الوقائية إضافة لما قد تسببه من مضايقة للمواطن والمقيم والزائر على حد سواء لكن هؤلاء جميعا لم يلحظوا شيئا مما قد يحدث في كثير من دول العالم في حالات أقل خطرا، ذلك أن المنظومة الأمنية السعودية بنيت على أسس متينة قوامها الثقة المطلقة بالمواطن وبالأنظمة ومن أهم ركائزها العمل بحكمة الواثق المقتدر والمخطط النابه والحريص على مصالح الآخرين ولهذا تحديدا انطلقت برامج المناصحة متزامنة مع الخطة الميدانية الصارمة فأثمرت تلك السياسة نتائج أضحت محط الإعجاب والاعتزاز بل أصبحت بكل فخر (ماركة مسجلة) باسم المملكة بعد أن تعالت الأصوات في دول متقدمة منادية باتخاذ نفس النهج والاستفادة من آلية العمل السعودي في مجال مكافحة الإرهاب وهو واحد من عشرات المجالات التي برع في إدارتها وطن جعل الإنسان في طليعة اهتماماته وطن اكتنز الأمن كما لو كان أكبر نفائسه ومقتنياته وثرواته التي لا تقبل النضوب. في هذا السياق يمكننا الجزم باعتبار سمو ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز المهندس الأول للأمن العربي دون منازع انطلاقا من قدرة كانت ولا تزال واضحة المعالم في سياسة المملكة الأمنية حتى أضحت معظم الخطط الاستراتيجية السعودية منهجا لمدرسة متميزة وازنت ببراعة بين الحزم واللين، بين المواجهة والمناصحة، بين المباغتة والتأني، بين الاحتواء والمعالجة، مرتكزة في برامجها على منهج الدين ومصلحة الوطن والمواطن فالذين عملوا مع سموه لسنوات طويلة والذين كانوا على مسافة قريبة منه يتحدثون باعتزاز عما يتمتع به من حس إنساني عميق حتى في أصعب الظروف وأحلك المواقف وأكثرها حرجا والتباسا وأشدها ضراوة لأن الملمح الإنساني لنايف بن عبدالعزيز لم يكن ملمحا مكتسبا وإنما كان تجسيدا لطباع عميقة جبل عليها. لم تكن وزارة الداخلية فيما مضى من الزمن أكثر من منظومة أمنية ذات تخصصات محدودة بنيت حديثا وبدأت التدرج في مجال التطوير لتعنى بأمن البلاد ولم تكن الجرائم متشعبة ومتنوعة ومعقدة ومنظمة وفقا لرؤى المعاصرين وشهاداتهم وكان القيمون على الأمن يبذلون جهدا جهيدا في استتبابه بفضاءات الوطن معتمدين على إمكانات تلائم تلك المرحلة بدءا بالعسس وانتهاء بحرس الحدود مرورا بأمن الداخل وتسيير حياة الناس فالحياة جلها لم تكن معقدة والجرائم محدودة في الشكل والنوع معظمها يتركز في المشاكل الخلافية والنزاعات القبلية على اعتبار المجتمع آنذاك مجتمعا قبليا صرفا، ولهذا عندما نذكر الأمن يقفز إلى الأذهان نايف المفكر والمخطط الحكيم الحازم في مواضع الحزم واللين في مواضع اللين، كيف لا، وقد كانت ولا تزال أولى الأولويات في ذهنه المطالبة بالتثقيف ومن بعد التثقيف التثقيف إلى جانب إيمانه بالتطوير ومجاراة العصر والأخذ بكل جديد مفيد والعناية التامة بمستوى المنظومة الأمنية والتدرج في تحقيق الأهداف، لهذا لم تكن المؤسسة الأمنية السعودية في يوم من الأيام جهازا لوأد الحريات كما أنها لم تركن قط إلى منطق القسوة بل دائما ما تنظر إلى الحوار وإلى «الفكر» بوصفه قارب النجاة لأي مجتمع، ومن هنا جاء مشروع الحوارات مع عدد من الشباب المتشدد ممن لم تتلوث أيديهم بدماء الأبرياء للخروج بقناعة مشتركة مفادها أن العمل المسلح الذي تبنته تلك الفئات لم يكن سوى محض عبث لأنه لن يجدي نفعا ولن يحقق أي نتيجة من تلك النتائج التي توهمها الخيال المحدود ضيق الأفق. تلك الأجهزة الأمنية بالطبع يقف وراءها سموه بحنكته وحكمته وخبرته في ميدان العمل الأمني فضلا عن وعيه العميق وثقافته الواسعة ومعرفته بالزمن وتحولاته والواقع وحقائقه ومنطقه وقوانينه واستشرافه المستقبل ورؤيته لما يحدث في المجتمعات ولما يحاك ضد بلد له دور ورسالة وهدف بلد ذي ثقل روحي هائل وذي ثقل وحضور في المشهد السياسي العالمي. فعندما نستعرض مثلا قول الله جل وعلا (ولا تزر وازرة وزر أخرى) نجد هذا المعنى متجسدا في آلية عمل وزارة الداخلية مثلما تجسد في تعاملات المملكة بشكل عام ذلك أننا لا نذكر ولا يذكر غيرنا أن وزارة الداخلية قد أخذت والدا بجريرة ابنه ولا ابنا بجريرة أبيه ولا أخا بما فعل أخوه رغم بشاعة الجرم في كثير من الأحيان ورغم التعاطف والتحريض والغوغائيات ومحاولات زعزعة الأمن في الداخل وتشويه الصورة في الخارج والأفعال البغيضة المشينة وفي مقدمتها حادثة الحرم الشهيرة فعوائل المنحرفين عن جادة الصواب ينعمون بدفء لا مثيل له بل إن الدولة وفقا لسياستها الحكيمة تعاملت معهم بحنان المشفق ورحمة الوالد وعطف المتألم فتحملت المسؤولية واحتضنت الأسر، ولهذا لم يشعروا مطلقا بانعكاسات الأعمال المشينة لأقاربهم على حياتهم الخاصة أو العامة والأمثلة كثيرة ولا مجال لحصرها ومنها على سبيل المثال تلك المحادثة الدافئة الحانية المؤدبة والشهيرة بين سمو مساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف ووالد من أراد قتله عندما تقدم سموه لتعزيته وطمأنته ومواساته.