يستهل ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة في الرياض اليوم بكلمة افتتاحية لوزير العدل الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، وتسبق الكلمة الجلسات الثلاث التي تأتي في أولها تحت عنوان «مفهوم العقوبة وأنواعها» برئاسة عضو هيئة كبار العلماء عضو اللجنة الدائمة الشيخ أحمد بن علي سير المباركي ومشاركة عضو هيئة كبار العلماء عضو اللجنة الدائمة للإفتاء الشيخ عبدالله بن خنين، الأستاذ في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية الدكتور فؤاد عبدالمنعم، والأستاذ في جامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز الحميدي. أما الجلسة الثانية فحدد لها عنوان «حقيقة العقوبات البديلة»، ويرأسها صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سطام بن عبدالعزيز أستاذ السياسة الشرعية في المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويشارك فيها رئيس التفتيش القضائي في المجلس الأعلى للقضاء الدكتور إبراهيم المحيميد، وكيل وزارة العدل للشؤون القضائية الدكتور عبدالمحسن آل مسعد، والقاضيان في وزارة العدل الدكتور علي الدبيان والشيخ يوسف الفراج. ويرأس الجلسة الثالثة عضو هيئة كبار العلماء عضو اللجنة الدائمة للإفتاء الشيخ محمد بن حسن آل الشيخ، وخصصت للحديث عن «أنواع العقوبات البديلة»، بمشاركة رئيس قسم العدالة الجنائية في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، عميد كلية الحقوق في الأردن الدكتور كامل السعيد، والقاضي في وزارة العدل الشيخ محمد العبد الكريم. من جانبه، أكد عضو هيئة كبار العلماء الدكتور قيس بن محمد المبارك أن الحكمة من تشريع العقوبات على الجنايات المنع من ارتكاب المحظورات، مشيرا إلى أنها زجر للعصاة المخالفين وتأديب لغيرهم من الصبيان عن الوقوع في المنهيات، من باب ردعهم واستصلاحهم، لافتا إلى العقوبات ليست مقصودة لذاتها، وإنما دفع المفاسد، وتحقيق المصالح. وأشار الدكتور المبارك إلى إن استصلاح أحوال العصاة والمذنبين والمخالفين، هو المقصود الأعظم من تشريع العقوبات، وكذلك دفعا لمفسدة الاعتداء على حقوق الآخرين، فتحفظ بهذا أموال الناس عن السلب، وأعراضهم عن الثلب، وأنفسهم عن الاعتداء عليها بالجرح أو القتل، لافتا إلى أنه إذا تحقق هذا المقصود بأيسر وسيلة، لا يعدل عنها إلى غيرها، وإذا كانت العقوبة تفضي إلى تربية على الأخلاق وتهذيب للنفس، فهذا أكمل وأفضل، وبهذا نكون قد أبقينا للجاني ما يردعه ويزجره عن الوقوع في الإثم والعدوان، ونفعناه بعملٍ ينفعه في الدنيا ويهذب أخلاقه. التعزير بالحبس من جهته، قال وكيل وزارة العدل الشيخ عبد اللطيف الحارثي: إن مما حفلت به كتب الفقه من أقوال الأئمة الفقهاء؛ فهما منهم لنصوص الكتاب والسنة، قول ابن فرحون في تبصرة الحكام: والتعزير لا يختص بالحبس، وإنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. وقول (أبو بكر الطرطوشي) في أخبار الخلفاء المتقدمين: إنهم كانوا يعاملون الرجل على قدره وقدر جنايته. وقول القرافي: إن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار؛ فرب تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر. وشدد الحارثي على ضرورة أن يكون في التعزير اعتبارا لمقدار الجناية والجاني والمجني عليه، مستدلا بقول العز بن عبد السلام: وأما التعزيرات فزواجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات، وهي متفاوتة بتفاوت الذنوب في القبح والأذى. وقول ابن حزم في تعريف السجن في كتابه الإحكام إنه: منع المسجون من الأذى للناس أو من الفرار بحق لزمه وهو قادر على أدائه. ونحوه قول ابن تيمية: الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق؛ وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه. وأضاف: «مفاد ذلك أن التعزيرات في الشريعة تتميز عن الحدود وبقية العقوبات الشرعية الأخرى بأمور منها، أنها غير محددة شرعا بمقدار ولا بنوع معين، وإنما فوض تقديرها إلى اجتهاد من يقيمها من الفقهاء والقضاة، تختلف بحسب الناس، بينما الحدود لا تختلف وإن تغير فاعلها، لا تسقط بالشبهات، تابعة للمفاسد سواء أكانت جنايات أم جرائم، وسواء كانت معاصي أو مجرد مفاسد، أما الحدود فإنها باستقراء أفرادها في الشرع لم توجد إلا في معصية». وكذلك سعة مجالها من جهة السبب الموجب لها، وتقديرها، وعموم من تقع عليه، مناسبتها للجناية قدرا ونوعا وصفة، ولذلك فإنها تتفاوت، ودخول التخيير فيها، بخلاف الحدود، حاشا حد الحرابة. ولفت إلى أن في عالمنا اليوم تتجه الأنظمة العدلية في الكثير من دول العالم إلى تطبيق العقوبات البديلة أو ما يعرف بعقوبة النفع العام لأسباب إنسانية واجتماعية ووطنية واقتصادية خاصة في الجرائم والمخالفات التي تقع أول مرة، أو من الفئات العمرية الصغيرة التي تعاني من مشكلات نتيجة ضعف التنشئة وسوء التكيف الاجتماعي وقلة الوعي، من خلال فتح نافذة نحو المستقبل أمامهم للخروج من دائرة الضياع؛ وذلك بالتوسع في الأخذ ببدائل العقوبات البدنية؛ والسالبة للحرية، وإعطاء القضاء سلطات أوسع؛ في تطبيق العقوبات البديلة؛ لتحقيق النفع العام، وإصلاح الفرد والمجتمع. وأوضح وكيل وزارة العدل أنه في أروقة محاكم المملكة تجارب في تطبيق البدائل والأخذ بها، وقد لاقت كل الترحيب من ولاة الأمر ووجهوا باعتماد البدائل كخيار واسع للقضاة عند إصدارهم لأحكامهم الجزائية، وفي هذا السياق يأتي الأمر السامي الكريم ذي الرقم 2523/ م ب والتاريخ 19/3/1430ه بتشجيع الأخذ ببدائل عقوبة السجن، المالية والبدنية والاجتماعية، والتدابير المقيدة للحرية، الواردة بوثيقة الرياض، وغيرها مما يمكن تطبيقه من بدائل. عدم الردع أما رئيس المحكمة الجزئية في الدمام محمد بن زيد الرقيب، أكد أن العقوبات بالسجن قد لا تكون رادعة لكثير من الجناة وربما لا يستفيد السجين من سجنه فائدة تبعده عن طريق الانحراف وترده إلى جادة الصواب، وربما يشكل كثرة السجناء عبثا كبيرا على الجهة المختصة مما يقتضي إعادة النظر في بعض العقوبات التعزيرية لبعض القضايا والنظر في بدائل عسى أن يكون فيها بإذن الله الخير للمجتمع وإعانة الجاني على سلوك المنهج السوي والطريق المستقيم. التقدير للقاضي ويؤكد رئيس التفتيش القضائي في المجلس الأعلى للقضاء الدكتور ناصر بن إبراهيم المحيميد أن العقوبات التعزيرية يرجع تقديرها إلى القاضي، مشيرا إلى أن علماء الأمة وسعوا النظر في تقرير العقوبات التعزيرية. وقال: إن سعة وشمول قضائنا المستند على الشريعة الإسلامية الخاتمة للشرائع السماوية أمر متقرر لكافة المطلعين على هذا الأمر والمعنيين به ومن هذا المنطلق جاءت العقوبات في هذه الشريعة الخاتمة مناسبة لكل زمان ومكان، شاملة لكل أنواع الوقائع، سواء كانت عقوبات حدية منحصرة، أو تعزيرية واسعة؛ قابلة للتنوع والتغير بحسب أحوال الزمن والوقائع، فيحدث للناس من القضاء وفق ما أحدثوا من القضايا، وهذا التنوع في الأقضية التعزيرية، يبنى على ركائز أساسية ثابتة، وينطلق من دعائم أصيلة راسخة. ولفت المحيميد إلى أنه كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن العقوبات التعزيرية البديلة، إذ جاءت المناداة الواسعة بالنظر في أنواعها وأحوالها، خصوصا لما كثرت الوقائع الموجبة للعقاب، وأصبح إيقاع العقوبة تحيط به عدة أطر، تتعلق بالمحكوم عليه ومن يعول، وبالمجتمع ومن يخالط، وبالدولة وما تنفق، كما جاءت الدعوة الصريحة لإيجاد مراجعات للعقوبات الشهيرة فيما يحقق الهدف من دفع جماح الخطيئة بأسهل الطرق وأسلم الأحكام وأيسرها. تأهيل الإنسان وأوضح رئيس محاكم منطقة القصيم منصور بن مسفر الجوفان أن استحداث الأحكام البديلة للسجن أو الجلد أو الغرامة تصب في خانة تأهيل الإنسان وتقويمه وبنائه وردعه عن الوقوع في الجريمة، وفائدته الدينية والعلمية وغير ذلك، مشيرا إلى أن بإمكان القاضي النطق بحكم بديل بحسب التهمة والجرم وقد يكون غرامة مالية أو خدمات اجتماعية أو ما يراه القاضي مناسبا، كما أن هناك الكثير من العقوبات البديلة التي تطبق حاليا، والتوجه لتفعيل العقوبات البديلة لخدمة المجتمع، أحد الحلول الناجحة لحل مشكلة التكدس في السجون، خصوصا من يقعون في الجرم للمرة الأولى، كما تمنع التصاق وصمة السجن بالسجين، وتفتح أمامه باب التوبة واسعا دونما افتضاح أمره، لاسيما أن سجن المخطئ أحيانا يترك في نفسه آثارا نفسية واجتماعية واقتصادية، ما قد يغير من سلوكه بعد خروجه. ولفت إلى أن من ضمن البدائل التي تخضع للدراسة هي تطبيق نظام إلكتروني تقني يتيح المراقبة المنزلية للمحكوم عليه، مشيرا إلى أن هذه التقنية من شأنها أن يقضي المحكوم عليه مدة سجنه في بيته لا يغادره طوال فترة الحكم، دون الحاجة إلى بقائه في السجن وما يترتب على ذلك من تشرد الأبناء والأسر ووقوع مخاطر اجتماعية ونفسية عديدة. وطالب باستثناء بعض الحالات من العقوبات البديلة والتي تستوجب السجن من أهمها حالات الإخلال بالأمن وجرائم السطو وانتهاك الأعراض والنصب والاحتيال والسرقة والشيكات دون رصيد والنفقة على الأبناء وغيرها. فقدان الإحساس رئيس المحكمة الجزئية في الأحساء الشيخ عبدالباقي آل الشيخ مبارك، أوضح أن كثرة الجلد ربما يفقد الجناة الإحساس حيث أصبح محل استفهام، كما أن السجن يؤثر سلبا على بعض الأحداث من صغار السن الذين غلبتهم أنفسهم وربما وقعوا في الجريمة للمرة الأولى فقد يسجنون مع مجرمين كبار ومروجي مخدرات مما يؤثر على عقولهم وأفكارهم فيؤدي إلى انحراف سلوكهم ومعرفتهم بالجريمة ووسائلها. وأضاف: «ما دام الأمر كذلك وأن لكل زمان أحكاما تعزيرية تكون أنكى من غيرها وأنفع فما المانع في هذا الوقت من تجاوز هذه النوعية من العقوبات التعزيرية والعمل على الأخذ بعقوبات تعزيرية جديدة، بل من الضرورة الأخذ بها في هذا الزمن وما دامت غير خارجة عن مقاصد الشريعة والتي من أسمى مقاصدها إصلاح الفرد والمجتمع».. أنواع العقوبات في الشريعة يتناول الدكتور عبد العزيز الحميدي في ورقته المعنونة ب(أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية)، حكم العقوبات والحدود الشرعية، وكذلك أقسامها، والحدود المتفق والمختلف عليها. ثم يتناول التعزير وتعريفه، إذ يبدأ من التبكيت والتوبيخ ويصل إلى القتل في أحوال، مشيرا إلى أنه قد يتم على فعل محرم أو ترك واجب أو فعل مكروه أو مطل أو ظلم أو فحش أو عداوات ونحو ذلك. الفرق بين الكبار والصغار في الجلسة الثالثة يلقي القاضي في المحكمة العامة في الرياض الشيخ محمد بن عبد العزيز آل عبد الكريم ورقة عمل عن الحكمة من التفريق بين العقوبات البديلة المطبقة على الصغار والكبار. وفي ورقته يقول آل عبد الكريم «إن القضاء بين الناس فريضة محكمة وسنة متبعة، وعمل جليل القدر خطير الزلل، به تقام الدنيا على العدل، وتفصل الخصومات، وترفع المظالم، وتقضى الحقوق، بقوة القضاء تقاس الدول». ويورد أن بدائل عقوبة السجن فرع لمبدأ تنوع التعزير في الشريعة الإسلامية، مشيرا إلى أن بحثه يحوي مطالب عدة، إذ يتناول تعريف التعزير لغة، تعريف التعزير اصطلاحا، مصطلح بدائل السجن، المنزع الفقهي، مقاصد التعزير، الحث على الأخذ ببدائل عقوبة السجن في المملكة، ونماذج من تنوع التعزير في الأنظمة السعودية. وذكر العقوبات المالية كنوع للتعزير، وكذلك النفي والتغريب، ثم السجن، مبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم سجن في المدينة في تهمة دم، أخرجه النسائي وعبد الرزاق، وثبت أن عمر كان له سجن وأنه سجن الحطيئة الشاعر المشهور لأنه كان يهجو الناس ويلغ في أعراضهم، واكترى دارا في مكة لصفوان ابن أمية وجعلها سجنا.