مطلع القرن ال 20 شهدت المنطقة العربية عموما ملامح تأسيس دول، بعد أن عانت المنطقة على مدار أربعة قرون من الهيمنة الخارجية، بمعنى أن المنطقة لم تشهد دولا بالمعنى السياسي والجغرافي كما هي عليه الآن، لكنها كيانات اجتماعية قائمة لم تأخذ شكلها السيادي القطري كما هو الحال. وفي مراجعة سريعة للتاريخ السياسي للمنطقة، نجد أن هناك نوعين من الدول، «دول النزوة» كما يسميها الباحث الأمريكي صمؤيل هنتنغتون في كتابه الشهير صدام الحضارات أو صراع الحضارات، ودول الإرادة أي الدول الحقيقية، ففي الحالة الأولى دول «النزوة» كانت ردة فعل على الحالة الاستعمارية السائدة خصوصا ضد البريطانيين والفرنسيين، وهذا ما وجدناه في كل من الدول العربية الأخرى في بلاد الشام والمغرب العربي وحتى في مصر والسودان، والدليل على ذلك أن معظم الدول العربية تعاني حتى هذه اللحظة من أزمة حدود، الأمر الذي يعود بالدرجة الأولى إلى ردة فعل هذه الدول على الاستعمار الذي عمد على العبث بالجغرافيا. أما الحالة الثانية فهي دول الإرادة، وهو مبحثنا في هذا المقال، لم يكن إعلان تأسيس المملكة العربية السعودية في العام 1932 بالحدث العادي في الشرق الأوسط، إذ كان هذا اليوم لحظة تحول في تاريخ المنطقة لما لهذه الدول من أهمية بالغة سواء من الناحية الجغرافية أو من الناحية السياسية، فالمملكة تحتل موقعا مميزا يطل على معظم دول الخليج، ما يعطيها صفة الدولة الاستراتيجية من ناحية الموقع، فهي مركزية الموقع بالنسبة إلى الحالة الجغرافية، فضلا عن كونها دولة فتية بإمكانيات بشرية كبيرة، ناهيك عن الأهمية الدينية، إذ تحتضن الأماكن المقدسة للمسلمين، والتي تتجلى في كل من المدينةالمنورة ومكة المكرمة، هذا في حال تجاهل الأهمية الاقتصادية سواء في الماضي، كونها تشهد سياحة دينية وطريقا حيوية تجارية، أو في الوقت الراهن والذي نتحدث عنه في معرض آخر. وسط كل هذه المعطيات، جاء تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك المغفور له عبد العزيز آل سعود. من يحلل الفترة التاريخية التي عاشها الملك عبدالعزيز رحمه الله يجد بلا أدنى شك أن الملك كان قائدا تاريخيا فذا، أدرك الحقيقة التاريخية للمنطقة والتي تتجسد في الوحدة والقوة، لذا أطلق الملك عبد العزيز حروب توحيد المملكة، وكانت هذه نقطة الارتكاز الأولى في السياسة السعودية منذ تأسيس المملكة، فالوحدة الجغرافية كانت ومازالت النقطة الأساسية في حكم المملكة، ودرجت هذه الفكرة على كل ملوك المملكة، الذين عمدوا على صيانة وحماية حدود الوطن، لأنهم أدركوا أن عز الدولة في وحدة أراضيها. ليست هذه النقطة الوحيدة التي أدركها الملك عبد العزيز، بل عمد الملك إلى تأسيس الدولة بما يتوافق والحالة الاجتماعية، وهو علم حديث في السياسة، يقوم على صناعة الدولة بمفاهيمها وفقا للبنية الفكرية والاجتماعية، لذا كان القرار السعودي في اختيار الدين الإسلامي تتويجا لفكر الملك الذي آمن إيمانا كاملا بأهمية وضرورة الحكم بشرع الله، وكذلك لإذابة كافة الانتماءات القبلية في بوتقة الإسلام، على اعتبار أيضا أن أرض المملكة هي منطلق الديانة الإسلامية، وهنا لا بد ألا ننسى أيضا التركيز على أهمية الفرد في تأسيس المجتمع، ما جعل لكل مواطن يشعر حقيقة بانتمائه الوطني فوق أي انتماءات أخرى، مع احترام الروابط القبلية السائدة التي تشكل جزءا من الروح الاجتماعية السائدة. وبعد أن توطد الحكم في الداخل وتم ترتيب البيت السعودي أعلن في العام 1932 نشوء دولة المملكة العربية السعودية التي تحظى حتى هذه اللحظة بالاحترام الدولي الكبير. كان ذلك البداية في ولادة دولة السلام والإسلام، وعلى هذا الأساس سار ملوك المملكة في نهجهم القائم على العناصر التالية: الإسلام، وحدة الأرض، كرامة المواطن ورفاهه. بعد 81 عاما نقف اليوم أمام مملكة مترامية الأطراف بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، ونحن في لحظة تاريخية من مسيرة المملكة، فالمجد الذي وصلت إليه المملكة اليوم لا يضاهيه أي مجد، فالملك عبد الله بن عبد العزيز، كرس ممارسة كل أسس الحكم السعودي السابقة، لما يملك من حكمة وحنكة في إدارة شؤون الدولة، وبفضل هذه الحكمة والدهاء السياسي باتت المملكة اليوم في مقدمة الدول العالمية على المستويات السياسية والاقتصادية، ففي المجال الاقتصادي تنتج المملكة من النفط 9.76 مليون برميل يوميا وهي أحد أهم أعمدة الاقتصاد العالمي، إذ إن الدول الصناعية الكبرى تعتمد اعتمادا مباشرا على نفط المملكة، وهذه الميزة يعطيها أولوية سياسية إضافة إلى البعد الاقتصادي، وفي الواقع استثمرت المملكة الطاقة النفطية في اتجاهين، إذ باتت ضابطا لا غنى عنه في ضبط أسعار النفط، ناهيك عن ترسيخ دورها السياسي وحضورها في العالم الغربي. أما على المستوى السياسي، فقد أدت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز دورا سياسيا محوريا سواء على المستوى العربي أو الإسلامي أو العالمي، بدءا من المبادرة العربية للسلام ودورها في متابعة القضية الفلسطينية، إلى مبادرة الملك التاريخية في القمة الاقتصادية عام 2008 في الكويت، حين دعا العرب إلى الوقوف صفا واحدا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وطي صفحة الخلافات. ليس هذا فحسب بل وقفت المملكة إلى جانب العراق ورفضت الاحتلال الأمريكي وما يتعرض له العراقيون من عنف مستمر، ووقفت كذلك إلى جانب الشعب السوري الذي يتعرض للقتل الممنهج، وقالت كلمة الحق، بما يتناسب ودورها السياسي ومسؤوليتها أمام العالم الإسلامي خصوصا والعالم أجمعه. نحن نراجع اليوم 81 عاما، ونتوقف مع ملك حكيم أحب شعبه وكرس كل جهده لخدمته، إنها القيادة الرحيمة والحكيمة والأمينة على أبناء الشعب السعودي، فكل عام والمملكة وملكها بخير، على أمل متابعة مسيرة البناء. [email protected]