عندما اندلعت التظاهرات الصاخبة في درعا أبريل الماضي، بسبب أخطاء المسؤول الأمني هناك، كان المطلب الرئيس هو محاسبة من اعتقل الأطفال وعذبهم، بسبب شعارات كتبوها على جدران مدرستهم. ووعد الرئيس بشار الأسد في خطابه الأول أمام مجلس الشعب بالتحقيق في التجاوزات. ولربما لو عوقب مسؤول الأمن على ما اقترفته يداه في ذلك الزمن المبكر، لكانت تلك أولى إشارات الإصلاح الجاد، والتي على رأسها إخضاع أجهزة الأمن للمحاسبة المسلكية والقضائية، وإبعادها عن الشؤون السياسية والحياتية للمواطنين، وانتهاج سياسات مدنية اعتيادية من دون رقابة المادة الثامنة للدستور التي تجعل السوريين على درجتين، من هم بعثيون مكلفون بحسب الدستور بقيادة الدولة والمجتمع، ومن هم غير بعثيين عليهم أن يكونوا دائما تحت هيمنة أبناء الدرجة الأولى الذين يحتكرون كل شيء من الموارد والفرص، إلى المواقع والمناصب، وحتى الشعارات الوطنية. ذلك هو جوهر المشكلة في سورية، وما عدا هذا مجرد تفاصيل، لا ينفع معها أي تعامل، تعديلا أو إلغاء، نفيا أو إثباتا، وفق حزمة الإصلاحات الشكلية التي تصدر كمراسيم تشريعية، توحي أنها تفتتح مرحلة جديدة من التعددية السياسية والإعلامية في البلاد. فما دام زمام الأمور محسوما سلفا لجهة واحدة، فلماذا تشكيل الأحزاب أو تأسيس الصحف أو إصدار القوانين في ظل هذا النظام المشكو منه؟ وهل النظام الحالي في سورية على شاكلة أية دولة ديموقراطية في أوروبا مثلا، قام على أساس اقتراع شعبي حر، كي يتذرع بقانون التظاهر الصادر على عجل أثناء الأزمة، ليبيح إطلاق النار بالدبابات على المتظاهرين الخارجين على هذا القانون تحديدا؟ فما هو المخرج من المأزق الدموي وقد فشلت كل مبادرات النظام في احتواء الشارع؟ يبدأ الأمر بتفكيك الحلقة المفرغة التي أدخلت سورية في دوامة العنف، أي الفصل بين المسار السياسي و الإجراءات الأمنية الاعتيادية التي تقوم بها أية حكومة لحماية مواطنيها. ويعني ذلك تحديدا، سحب كتائب الجيش تدريجيا من المدن والقرى، وفق جدول زمني محدد، بعد الاتفاق مع الوجهاء والعلماء على تشغيل المؤسسات العامة وتدبير مصالح المواطنين، بما يحفظ الأمن والاستقرار، على أن يتضمن ذلك أيضا الاعتراف بحق أساسي وهو حرية التعبير سواء أكان ذلك عبر الإعلام أو التجمهر، ما يعني تعطيل قانون التظاهر الصادر حديثا، والذي لا يناسب هذه المرحلة المتأججة بالمشاعر. ويتبع ذلك مباشرة، إطلاق سراح كل المعتقلين منذ 15 مارس الماضي دون أي استثناء، لأنهم اعتقلوا تعسفيا خارج الإطار القضائي، طبقا لقانون الطوارئ الملغى، وقانون التظاهر الذي ولد ميتا، في وقت اعترفت فيه القيادة بالحاجة إلى دستور جديد، أي أن سورية باتت حكما في مرحلة انتقالية تأسيسية. بعد ذلك، يبدأ مساران متوازيان معا، الأول فتح باب التحقيق الشفاف عن الجرائم التي ارتكبت خلال هذه الفترة، أما المسار الثاني، يضم حزمة إجراءات تؤدي إلى إتاحة المجال لحوار سياسي حقيقي بين النظام والمعارضة بشتى رموزها دون أي حجر على أحد، من أجل إرساء أسس سورية الجديدة، ورسم معالم المرحلة الانتقالية.