في ال25 من صفر هذا العام غيب الموت أول طبيب سعودي في المسالك البولية عبد الرحمن طه بخش إثر معاناته مع تليف الرئة، ويعد أحد أطباء الرعيل الأول الذي عاصر معظم وزراء الصحة في المملكة، ووضع بصمات واضحة في القطاع الصحي الخاص. وقال نجله الدكتور طه بخش «رحم الله والدنا الذي نفتقده كثيرا في رمضان هذا العام، وخصوصا ذكرياته الجميلة معنا في هذا الشهر الفضيل، وحرصه على الصيام وأداء كل الفروض والتراويح، وصلة الرحم». وأضاف «عندما كنت صغيرا كان يحفزني على الصيام ويمنحني هدية إن صمت اليوم، ويصطحبني معه للمسجد لأداء الصلوات والتراويح، وبعد ذلك يأخذني معه إلى المستشفى، فعلاقتي مع والدي كانت الابن والأخ والصديق، حيث حرص منذ الصغر أن يعلمني ويترك لي مجال اختيار التخصص في المستقبل، وبدافع حبي لرسالة الطب الإنسانية حرصت على تخصص إدارة المستشفيات إلى أن حصلت على الدكتوراة، وعملت في مستشفى بخش بجانب والدي، وتتلمذت على يديه الكثير، فقد كان بجانب خبرته الطبية في تخصصه الجراحي خبيرا في إدارة المستشفيات، وقد وضع الكثير من الرؤى الإدارية، وشارك في العديد من الطروحات والمناقشات التي تهدف إلى تطوير الخدمات الصحية في منطقة مكةالمكرمة». محب للخير ورأى أحد المؤسسين لجمعية أصدقاء السكر والمعاصرين للفقيد الدكتور عبد الرحمن بخش، البروفيسور سراج ميرة، أن الفقيد كان رمزا من رموز العمل الإنساني، فقد سخر جل اهتمامه في جانب خدمة مرضى السكري من خلال تبرعه بجزء كبير من مستشفى دار الشفاء لخدمة المرضى غير المقتدرين والمحتاجين، بجانب والدنا الراحل الدكتور محمد عبده يماني الذي افتقدناه أيضا هذا العام وقد كان رئيسا لمجلس إدارة جمعية السكر، فكلاهما رحمهما الله كان يحرص على منح مساحة من وقته في متابعة أحوال المرضى، وتوفير الأدوية اللازمة للمرضى. سمو التعامل وقالت المديرة التنفيذية لمركز الشيخ محمد حسين العمودي للتميز في رعاية سرطان الثدي الدكتورة سامية العمودي عن الراحل: رحم الله الفقيد الذي نشعر بغيابه، فالراحل كان أبو الأطباء السعوديين ومن أوائل إن لم يكن أول من فتح أبواب العمل في القطاع الخاص لنا كأطباء من الجامعة لنعمل معه بنظام التفرغ الجزئي، كنت وقتها حديثة عهد بالعمل الطبي في القطاع الخاص وكان الدكتور فؤاد عزب وقتها هو حلقة الوصل بخبرته وعمله سابقا في الجامعة وبدأنا في مستشفى الدكتور عبد الرحمن بخش. وتضيف «هناك بدأت معرفتي به وهناك عرفت أن للأطباء في بلدي أبا يحتويهم ويؤمن بقدراتهم وكانت بداية معرفة لرجل تعلمنا منه أبجديات الخلق الرحيم والسمو في التعامل، كنت آنذاك في بداياتي واستمررت في العمل عنده لأعوام أدين له فيها بالفضل، فقد أكسبني العمل في مشفاه خبرة في كل الاتجاهات، وهناك تعرفت على بناته فعرفت عظمة الأبوة وجمالها من حديث بناته عنه ولم يكن ابنه طه موجودا بعد، وكنت أقول لنفسي دائما أية أبوة تقطر من هذا الرجل على ولده وبناته وعلى كل من يعمل معه وعلينا جميعا، ومرت بي الأيام وتركت العمل ثم عدت إلى مستشفاه يوم أجرى لي عملية أطفال أنابيب أستاذي الدكتور سمير عباس، وحملت بابني عبدالله بهذه التقنية فكان للمكان عندي طعم وذكرى، وبعدها حملت بابنتي إسراء بالطريقة نفسها وأيضا هناك، وأصبح مستشفى بخش عندي جزءا من تاريخي وتاريخ أبنائي». وتختم الدكتورة سامية حديثها «جاءت لحظة في العمر لم أعمل لها حسابا وأصبت بسرطان الثدي وشاء لي الله أن أعود إلى مستشفى بخش للعلاج فيه، وعندما كنت أدخل لزيارة طبيبي وأخي الفاضل البروفيسور محمود شاهين كنت أرى ظل حياتي في أركان المستشفى وخلال فترة علاجي وتنويمي ورفض أن أدفع ريالا واحدا بطريقة أخجلتني بل وغضب عندما أصررت على الدفع وبطريقة جعلتني أتعلم كرائم الخصال منه وأحمله جميلا له أدين له به». خدمة المرضى وفي السياق نفسه، عبر المدير العام الطبي لمجموعة مستشفيات بخش ومدير عام مستشفى بخش في مكةالمكرمة الدكتور سليمان مرداد عن بالغ حزنه وتأثره وافتقاده للراحل الدكتور عبد الرحمن بخش في رمضان هذا العام. وقال «كان الراحل في شهر رمضان يوصينا خيرا بالمرضى أولا وبالعاملين في المستشفى ثانيا، يشدد علينا بمساعدة المرضى أصحاب الظروف الخاصة الذين لا يستطعون دفع كل التكاليف العلاجية، أما العاملون في المستشفى فكان يوصينا بتخصيص وجبات إفطار وسحور لهم». وأضاف «مآثر الفقيد لا يمكن حصرها، فقد كان صاحب أياد بيضاء، ويوصينا بالصدقات الجارية، والحمد لله أن أبناءه البررة مستمرون على خطاه، احتسابا للأجر والمثوبة». رجل عصامي وتحدثت مشرفة جمعية أصدقاء مرضى السكري الخيرية في منطقة مكةالمكرمة ومقرها جدة حنان سرحان قائلة: كرس الراحل الدكتور عبد الرحمن بخش جهده الإنساني في خدمة المرضى وبالتحديد مرضى السكري، فكان يلمس معاناة هذه الفئة من المرضى سواء المعتمدين على الأنسولين أو الحبوب، ولم تتوقف مسيرة العمل الإنساني عند خدمة المرضى وتوفير العلاج لهم، بل فتح قنوات جديدة للمرضى من خلال الوصول إلى مرضى السكري في القرى والهجر بعد أن تبنت الجمعية الفكرة التي أطلقها الراحل الدكتور محمد عبده يماني بمشاركة الأعضاء وهي العيادة المتنقلة المزودة بكادر طبي متكامل يقدم خدمات تشخيصية وتحليلية وعلاجية لمرضى السكري. العمر أيام وحرص الفقيد الدكتور عبد الرحمن بخش أن يسجل ويدون مسيرة حياته في إصداره «العمر أيام» وفيه يقول: لأنني من أوائل الاستشاريين في جراحة المسالك البولية، فقد كان يراودني على الدوام الحلم والأمل، في أن انشئ مستشفى لجراحة المسالك البولية، لقد كان ذلك هو طموحي الأول بعد أن دارت عجلة دار الشفاء واستقامت أوضاعها، وتردد اسمها وأحاطها الناس بالتقدير، فالواحد من أمثالنا يتمنى في البدء أن يكون طبيبا، وعندما يصبح طبيبا، يتمنى أن يكون ناجحا في عمله، وعندما ينجح في عيادته يتمنى لو أنه أصبح لديه مستشفى تخصصي، إنه الطموح الإنساني الطبيعي، وقد كنت من هؤلاء الطامحين. كنت أتمنى أن أنشئ مستشفى للمسالك البولية، ولكن كيف؟ لقد تذكرت ساعتها زميلي الدكتور عاكف مغربي الذي تزاملت معه في مشوار الحصول على درجة الزمالة، هو في أمراض وجراحة العيون وأنا في أمراض وجراحة المسالك. ويواصل الراحل سرد القصة «كان لوالد الدكتور عاكف المغربي (رحمه الله) مستشفى للعيون في طريق مكة القديم وعندما عاد من البعثة بدأ يمارس المهنة في مستشفى أبيه. وأخذ اسمه يلمع في الوقت الذي بدأت أظهر في مستشفى دار الشفاء، فهو صديقي وزميلي، فقررت أن أذهب إليه لأفاتحه في هذا المشروع «الحلم» وقلت له يا دكتور عاكف: أيه رأيك في أن نقيم مستشفى مشتركا نحن الاثنين معا، فأنا لا أملك مالا كافيا حتى أنشئ به مستشفى لوحدي وهو لديه مستشفى والده القديم لكنهم كانوا يريدون أن يحدثوه، (هدم الآن وأقيمت على أرضه معارض وبنوا بدلا عنه واحدا في منطقة قصر خزام) فما رأيك في فكرة المستشفى المشترك، هذه؟ كان الملك فيصل (رحمة الله عليه) قد أصدر أيامها قرارا من مجلس الوزراء بمنح قرض يوازي 50 في المائة من تكاليف المستشفى للسعوديين الذين يريدون أن ينشئوا مستشفيات على أن يسددوه على أقساط سنوية بعد بدء التشغيل، فأيه رأيك في إقامة مستشفى ب«جناحين»: مثلا الجناح الشمالي للمسالك البولية والجناح الجنوبي للعيون ووسط المستشفى يكون للعيادات والمختبر والأشعة وبقية الخدمات الطبية وغير الطبية، بحيث ينام مريض المسالك البولية في جناح المسالك البولية، ومريض العيون ينام في جناح العيون، والخدمات الباقية كلها تتم في الجزء الأوسط، فهذا يخفف علينا أعباء التكاليف وفي نفس الوقت يمكننا من عمل شي طيب، وكل واحد يعمل في النسبة الخاصة به. استحسن الفكرة وقال: طيب.. فكرة معقولة. وابتدأنا نفكر معا.. فكانت مشكلتنا الأولى هي «الأرض» لأن وزارة المالية حتى تعطيك القرض، كانت تشترط أمرين: أن تكون لديك أرض تمتلكها، وأن يكون لديك مشروع مدروس على الورق». ويمضي الراحل قائلا «فقلنا إذن لنبدأ بالبحث عن الأرض، فأخذني إلى قصر خزام مكان مستشفاه الحالي.. قال لي: شوف يا عبد الرحمن هذا القصر فتحوه وتحول إلى حدائق، وحوله هذه الأرض للبيع، ما رأيك نشتريها ونقيم فيها مشروعنا، والأسفلت موجود، والإضاءة موجودة.. والمجاري موجودة وكل الخدمات البلدية موجودة في المنطقة بينما كنت أقول له: الأفضل أن نذهب إلى شمال جدة، وتعال شوف «مخطط باقدو»، وكان «مخطط باقدو» هذا في شارع طريق المطار «الجديد» وقد أصبح اليوم شارع الملك فهد (الستين) ولكنه لم يكن مسفلتا، وكان صغيرا ولم يكن بهذه السعة التي عرفناها في ما بعد، كان المطار على الجهة اليمنى وأمامه بعض بيوت متناثرة ولا أسفلت ولا إضاءة ولا مجاري ولا أي شيء، ركب سيارته وركبت سيارتي ومضى خلفي، فأخذنا نصعد على أكوام من الرمال ونهبط في حفر لا حصر لها، بعدها قلت له هذه هي الأرض؟ قال لي: أأنت مجنون يا عبد الرحمن.. قلت له: لماذا؟ قال لي: أأترك أرضا مسفلتة وفيها مياه وكهرباء وكل الخدمات وآتي إلى أرض الله الواسعة هذه التي لا أعلم متى تمهد ومتى تسفلت لأبني فيها؟ قلت له: إن جدة تتطور شمالا، وأنا اقترح أن نقيم مشروعنا هنا، فإن أردت أن تشاركني تعال شاركني. كان هذا الكلام في حدود عام 1974، ولكنه لم يوافق فدبرت أموري واشتريت الأرض وأكملت إجراءات الحصول على القرض. ويستطرد الدكتور بخش «لقد بنى الدكتور عاكف مستشفاه هناك.. وبنيت أنا هنا» في موقع مستشفى بخش «وانظر الآن: أنا في وسط جدة وشمالها يمتد أمامي في حركة تطور عمراني غير مسبوقة بينما تلك الجهة أخذت تتجمد، فمنطقة خزام التي كانت، لم يحدث بها نفس التطور الذي حدث في الشمال، إنها إرادة الله سبحانه وتعالى، لقد كانت المساعدات التي توالت علي قدرية دون شك، وهي من «تساهيل الله» ورضا الوالدين، ولكنها أيضا كانت تحمل إلي رسالة بالاستمرار ومواصلة الجهد حتى افتتح المستشفى وتوسعت في المشاريع الصحية لاحقا، وأقدم خدمة للناس بتلك الصورة المتواضعة والأخلاقية التي عرفوني بها في عيادتي وفي مستشفى «دار الشفاء»، وأحبوني من أجلها فكان عونهم لي وخدماتهم التي لا تقدر بثمن».