دعا المشاركون في ورشة «المناط.. فقه الواقع والتوقع» التي استضافتها المغرب، إلى المزيد من الاهتمام ب«فقه النوازل» وخاصة في الغرب الإسلامي، لما يختزنه من قواعد منهجية وخبرة تطبيقية تكون عونا للمجتهدين والدارسين في تحقيق المناط في العصر الحاضر. ويعد «المناط» نوعا من أهم أنواع الاجتهاد الذي لا بد منه لاستنباط الحكم الشرعي، حيث لا يمكن تصور اجتهاد صحيح دون تحقيق مناط صحيح، وكما أوضح رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد الدكتور عبدالله بن بيه أن المناط هو «القنطرة الواصلة بين حكم معروف العلة وبين مناط موصوف وبين محل مشخص معين لتحقيقها، لجعلها حاقة، أي ثابتة تترتب عليها الأحكام المنوطة بتلك العلة، والمحل قد يكون ذاتا حسية فيعمل على الحس فيها، لإصدار حكم بتحقيق مناط الحكم ثم ترتيب الأحكام عليها». وتعد الورشة الأولى في هذا الموضوع التي ينظمها المركز العالمي للتجديد والترشيد في لندن بالتعاون مع المركز العالمي للوسطية في الكويت، وتستضيفها وزارة الأوقاف المغربية، بمشاركة علماء الأمة ومفكريها في العالم الإسلامي ومجتمع الأقليات. وطالب المشاركون في الورشة في ختام أعمالهم إلى إيلاء الأولوية في معالجة «تحقيق المناط» للمنظور الأصولي الكلي والمدخل المنهجي لصعوبة حصر القضايا الجزئي، ولأن ضبط الكلي ييسر ضبط الجزئي، مع ضرورة الصياغة العلمية لضوابط تحقيق المناط بما يمنع المتطفلين على المجال من التسرع في هذا الشأن ويكون عونا لأهل العلم على ممارسته. كما أكدوا على أهمية العناية بدراسة علاقة تحقيق المناط بما يمكن أن يخدمه من مصادر أو مناهج أو أدوات في الاستنباط (بمقاصد الشريعة، والقواعد الفقهية، وتخريج الفروع على الأصول...)، والاهتمام بدراسة المزالق المنهجية في تحقيق المناط التي تنتج تطبيقات فقهية يطبعها الغلو والتنطع والتطرف، وإنجاز دراسات عن فقه تحقيق المناط في تطوره عبر تاريخ الأمة يبرز قيمته في تجديد فقه الأمة واستيعابه لحاجاتها المتجددة، وإشراك أهل الخبرة بالواقع في مختلف مستوياته، وتخصيص ورشة مستقلة لأهل الخبرة بالواقع تكون نتائجها وخلاصاتها بمثابة أرضية تنطلق منها المشاريع والدراسات المتعلقة بحقيق المناط في مجالات الحياة المختلفة. وكانت الورشة قد استندت إلى ورقة علمية تأطيرية أعدها رئيس المركز العالمي للتجديد والترشيد الدكتور عبدالله بن بيه، واعتبرها المشاركون سبقا علميا في تدقيق المفاهيم الرئيسة لموضوع تحقيق المناط في علاقته بالواقع والمتوقع، وصياغة مضامين الاجتهاد بتحقيق المناط ومجالاته ووسائله وآفاقه. وقدم ابن بيه في ورقته جوابا كافيا للسؤال: لماذا تحقيق المناط في القضايا الفقهية؟، حيث أوضح أن القضايا الفقهية، التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة، يجب أن تواكب مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، من أخمص قدم الأمة إلى مفرق رأسها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والعلاقات الدولية للتمازج بين الأمم، والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات والتطاول على فضاء المعتقدات. وقسم ابن بيه المسلمين حول القضايا الفقهية إلى فريقين، أحدهما أيس من المنظومة الفقهية فأشاح بوجهه عنها وخطف بصره بالتنوير والتحديث الغربي، ومجموعة أخرى لم تفهم النصوص إلا بعض الظواهر فتحاول أن تعيش في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل فقل عملها وضاق فهمها وخمدت لديها ملكة الاجتهاد. وأكد على الحاجة إلى اليوم إلى قراءة جديدة للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات والجزيئات، مشيرا إلى أنها جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائما أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور. ولكن ابن بيه يؤكد على أن المطلوب الآن، بالإضافة إلى الأنواع والأشخاص والأعيان، أن نحقق المناط في أوضاع الأمم ومقتضيات الزمان والمكان، متناولا الخلاف المسجل بين أعضاء المجامع الفقهية، مرجعا السبب إلى تفاوت بين الباحثين في قضية التصور والتشخيص أكثر مما يرجع إلى اختلاف في فهم النصوص الفقهية، فالخلاف يكمن في علاقة المسألة بتلك النصوص تبعا للزاوية التي ينظر منها الفقيه من خلالها. ولتفادي هذه الإشكالات حث ابن بيه الاقتصاديين الوضعيين والأطباء وغيرهم من أصحاب الصنائع والتخصصات على بذل الجهد لإيصال كل العناصر التي يتوفرون عليها إلى زملائهم الشرعيين ليحقق هؤلاء المناط لتنزيل الحكم على واقع العقد وعلى حقيقة الذات. ومن جانب آخر، أعلن وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور عادل الفلاح عن استضافة الكويت للمؤتمر العالمي «فقه الواقع والتوقع»، لافتا إلى أن الأمة الإسلامية تمتلك رصيدا ضخما وكما هائلا من موروث فقه الأحكام الشرعية، مشيرا إلى أن «هذا النوع من الفقه امتد في حياتنا واستبحر كثيرا وبلغ الفقهاء في تفريع مسائله وتشقيق فروعه مبلغا كبيرا حفلت به مكتباتنا العلمية مخطوطا ومطبوعا».