ثمة تحديات سياسية واقتصادية تواجه الدولة السودانية «الأم» بعد أن أصبح انفصال جنوب البلاد واقعا ملموسا بمباركة الأممالمتحدة، غير أن بإمكانها تحويل خسارة الجنوب إلى مكسب سياسي يحقق لها تعاطفا إقليميا ودوليا ربما يمهد الطريق لإعفاء ديونها الخارجية التي تناهز 38 مليار دولار إذا أحسنت التعامل مع تلك التحديات بحنكة وبعد نظر. أول تلك التحديات هو «وصمة» التفريط في وحدة البلاد رغم أن المسؤولية تتحملها جميع الحكومات التي تعاقبت على السودان منذ استقلاله عام 1956 حيث ظل التمرد الجنوبي المسلح بؤرة توتر لا تكاد تخمد حتى تتجدد بشكل أعنف مما كانت عليه على مدى خمسة عقود. وبانفصال الجنوب خسر السودان ربع مساحته تقريبا. وبعد أن كان أكبر الأقطار العربية الأفريقية تراجع من حيث المساحة إلى المرتبة الثالثة عربيا بعد المملكة العربية السعودية والجزائر، والمرتبة الثانية أفريقيا بعد الجزائر. وأصبح ترتيبه السادس عشر عالميا. وبحسب مدير مصلحة المساحة السودانية عبدالله الصادق فإن مساحة السودان التي كانت تبلغ 2.5 مليون كيلومتر مربع (مليون ميل مربع) باتت بعد انفصال الجنوب 1.881 مليون كيلو متر مربع. وأصبحت حدوده مع ست دول فقط هي مصر، ليبيا، اريتريا، اثيوبيا ، افريقيا الوسطى وتشاد. ولم تعد له حدود مشتركة مع كل من اوغندا، كينيا والكونغو الديمقراطية. ولن يتأثر السودان كثيرا بتقليص مساحته التي كانت تساوي مساحات عدة دول أوروبية مجتمعة، لكن التأثير المباشر والكبير سيكون اقتصاديا بعد أن خسر 37 % من مدخولاته بانفصال الجنوب الذي يستحوذ على 75 % من إنتاج النفط في الدولة قبل الانقسام. ووفقا لفؤاد حكمت الخبير في الشؤون السودانية بمجموعة الأزمات الدولية فإن الوضع الاقتصادي للسودان سيتأثر إلى حد كبير خلال السنوات القليلة المقبلة حيث يتوقع انخفاض سعر الجنيه السوداني وارتفاع نسبة التضخم في أسعار السلع مما يؤدي إلى توترات اجتماعية خاصة وأنه بعد اكتشاف البترول أهمل السودانيون الزراعة التي كانت تشكل المصدر الرئيسي للدخل القومي في السابق. ورب ضارة نافعة فقد تكون خسارة عائدات النفط دافعا للعودة للاهتمام بالانتاج الزراعي خاصة أنه تتوفر في البلاد أراض زراعية خصبة ومياه وفيرة وهي مقومات تمنح السودان ميزة نسبية إذا أحسن استغلالها. والتحدي الآخر الذي سيواجه الدولة السودانية هو نزعة تقرير المصير المؤدية إلى الانفصال التي قد تتملك أهالي بعض الأقاليم خاصة دارفور في حال نجح الجنوبيون في إقامة دولة عصرية مستقرة. ومن المخاوف كذلك تفجر الوضع في ولايتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق مما يؤدي إلى المزيد من التدخلات الخارجية ومن ثم التدويل مثلما حصل في دارفور خصوصا أن الآلاف من أفراد مليشيا الحركة الشعبية الحاكمة في دولة الجنوب يتواجدون في الولايتين بقيادة عبدالعزيز الحلو ومالك عقار وهما قياديان في الحركة التي لا شك في أنها ستدعمها ماديا وعسكريا في حال وصل الأمر إلى الحرب خاصة أنهما وأعدادا كبيرة من أفراد قبيلتيهما قاتلوا في صفوف الحركة ضد الجيش السوداني لسنوات طويلة. ويبدو أن مشكلتي هاتين الولايتين إضافة إلى قضية دارفور ستحول دون جني الحكومة السودانية استحقاقات التنازلات الكبيرة التي قدمتها وفي مقدمتها السماح للجنوب بالانفصال لتشكيل دولة خاصة به علما بأن جميع الحكومات التي تعاقبت على السودان كانت ترفض مجرد التفكير في خيار كهذا. ولن تكون قضية ترسيم الحدود مع دولة الجنوب أقل أهمية من تلك التحديات علما بأن الجانبين فشلا حتى الآن في التوصل إلى تسوية نهائية لنزاع منطقة أبيي حيث يتمترس كل طرف خلف موقفه وإن كانا اتفقا على نشر 4200 جندي أثيوبي لحفظ السلام في المنطقة وهو ما اعتبره بعض المراقبين بداية لتدويل القضية. ولترك هذه المشكلة معلقة دون حل آثار كارثية على قبيلة المسيرية الرعوية التي لن يتاح لها الوصول بمواشيها إلى مناطق المياه والمراعي في الصيف وبالتالي ستنفق مواشيها في ظل عدم وجود البديل. ويتعين على دولتي السودان إيجاد حل لمشكلة اجتماعية منسية في غمرة الفرحة الجنوبية الغامرة بالانفصال والحسرة الشمالية على التفريط في الدولة الموحدة. وتتمثل تلك المشكلة في العوائل التي يختلط فيها الدم الشمالي بالجنوبي وأصبحت الآن متنازعة الهوى بين الشطرين في ظل رفض حكومة الخرطوم القاطع لفكرة الجنسية المزدوجة. وبطبيعة الحال لن تكون كل انعكاسات انفصال الجنوب سلبية، فهو ينهي «نظريا» عقودا من الحرب الأهلية واستنزاف الأرواح والأموال في حرب «عبثية» الجميع فيها خاسرون. وإذا تحقق هذا الهدف سيكون تعويضا لكل ما تخسره دولتا السودان الشمالية والجنوبية. وسيتفرغ الطرفان إلى تنمية بلديهما بدلا من الصراعات والمناكفات.