نيوكاسل يتوج بكأس (الكاراباو) بعد غياب 70 عاماً عن البطولات    بعد هيرنانديز.. بلانيس يريد جلب الزلزولي للاتحاد    ‫الأخضر يدشن معسكر الرياض استعداداً للصين واليابان    محافظ البكيرية يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين "التعليم" و"جمعية الساعي على الأرملة"    محافظ الأحساء يرعى حفل تكريم 78 طالبًا وطالبة فائزين بجائزة "منافس"    مستشفى الأمير ناصر بن سعد السديري بالغاط يواصل حملة "صم بصحة"    محمد نور يتوقع بطل دوري أبطال آسيا للنخبة    نائب أمير منطقة جازان يشارك أبناءه الأيتام الإفطار الرمضاني    سفير بكين لدى الرياض :35 شركة صينية فتحت مقار إقليمية في السعودية    أزاد العقارية تعلن عن شراء أرض بمساحة 70 ألف متر مربع في مدينة جدة بحي الروضة    الأثر الثقافي للتقاليد الرمضانية    %43 من الطلاب المعاقين بالمرحلة الابتدائية    إفطار لصحفيي مكة    م.النعيم: التزام المشغلين بحقوق المستهلك 55%    اليمن بعد غزة ولبنان: هل جاء دور الحوثي    أخطر رجل في الجماعة الإرهابية: مرحلة الإمارات (7)    ترفيه ومبادرات مجتمعية    تي تي إم تحتفي بإرثها في ملتقيات رد الجميل    متى تحسم درجات المواظبة ؟    إصلاح قدرات الناتو ضرورة لمواكبة التهديدات المتسارعة    نوتات موسيقية لحفظ ألحان الأهازيج الشعبية    مرسم مفتوح ومعرض تشكيلي في رمضان زمان    العلمانية.. عناصر جديدة لفهم مسارها    4.67 ملايين للعناية بمساجد الأحساء    «مسام» ينتزع 548 لغمًا خلال أسبوع في اليمن    طاش مديرا تنفيذيا للمدينة الطبية    321 عملية أورام تعيد الأمل لمرضى جازان    100 متطوع ومتطوعة بحملة صم بصحة    غزة: 80 % فقدوا مصادر الغذاء    سورية: جامع خردة يتسبب في انفجار صاروخ ومقتل 16 شخصاً    «بسطة خير».. دعم الباعة الجائلين    مكة في عهد الوليد بن يزيد.. اضطرابات سياسية وتأثيرها على إدارة الحرم    الكوادر النسائية بأمانة المدينة.. تعزيز جودة العمل البلدي    تجديد مسجد العظام المبني في العهد النبوي    محمد بن ناصر: المملكة تضم نخبة من المميزين والمبدعين    نائب أمير نجران يثمَّن جهود الأفواج الأمنية.. ويكرم الطلاب المميزين    السعودية تحبط تهريب 7 ملايين قرص إمفيتامين في العراق    حكاية كلمة: ثلاثون حكاية يومية طوال شهر رمضان المبارك . كلمة : سراج السمن    الهلال يخسر لاعبه في الديربي أمام النصر    نائب أمير منطقة عسير يشارك أبناءه الأيتام الإفطار الرمضاني    أسواق    «المداح.. أسطورة العهد» مسلسل جديد في الطريق    التزام راسخ بتعزيز الأمن والاستقرار في العالم.. ولي العهد.. دبلوماسية فاعلة في حل الأزمات الدولية    ترامب يحذر الحوثيين: حان وقتكم.. سنحاسبكم بالقوة المميتة    مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يعقد اجتماعًا لمناقشة التقارير وإصدار التوصيات    ولي العهد يبحث مستجدات الأحداث مع رئيسة وزراء إيطاليا    اللجان الأولمبية الإفريقية تعترف بالاتحاد الدولي للهجن    ليفربول يواجه نيوكاسل في نهائي كأس الرابطة الإنجليزية    فتاوى الحوثيين تصدم اليمنيين    سفيرة المملكة في فنلندا تدشن برنامج خادم الحرمين لتوزيع التمور    الأذان.. تنوعت الأصوات فيه وتوحدت المعاني    وغابت الابتسامة    الصحة تجدد التزامها بحماية حقوق المرضى    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشابي .. شاعر كفر بالشعب الذي آمن به
نشر في عكاظ يوم 07 - 06 - 2011

لم يكن حظ تراثنا الشعري الحديث كحظ تراثنا الشعري القديم من حيث ما لقيته بعض أبيات الشعر فيه من حظوة جعلتها تكتسب من الذيوع والشيوع ما أصبحت معه تجري مجرى الحكم وتضرب مضرب الأمثال، فقليلة فيه هي تلك الأبيات التي يمكن الاعتداد بها على اعتبار أنها من شوارد الشعر التي كتب لها أن تكون من شواهد التمثل في مواقف مختلفة ومقامات متعددة، ومن تلك الأبيات قول أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
وقد كتب له من الذيوع ما تناوب عليه من حالات الإثبات والنسخ إذ كتبته أيد رأت فيه خير ما يتمثل به في مقام حض الشعوب على النضال ومحته أيد وجدت فيه نموذجا لما يتورط المحدثون من الشعراء من تجديف وانتهاك لحرمات الدين.
وعلى الرغم مما كتب لهذا البيت من الذيوع والشيوع على يد هؤلاء وأولئك إلا أن الذين سعوا إلى توظيفه لتثوير الشعوب ضد هيمنة الاستعمار وطبائع الاستبداد لم يكونوا أقل تنكرا وخيانة للغة الشعرية فيه من الذين استخدموه ليبرهنوا على ما يرتكبه الشعراء المحدثون من مروق عن الدين يوشك أن يكون كفرا إن لم يكن هو الكفر نفسه، فهؤلاء وأولئك لم يتورعوا عن فصل البيت عن سياقه في النص، ومن ثم فصله عن تجربة الشاعر ليتخذوه شعارا على ما يريدون أن يرفعوا الشعارات له أو شهادة على ما يريدون إقامة الدلائل عليه، وذلك في حقبة كان المتحمسون للنضال الوطني، وما زالوا، ينقبون في الشعر عن مسكوكات تتنزل منزلة الشعارات في الخطب والمظاهرات، وكان المتربصون بالشعراء، وما زالوا، يفتشون في الشعر عن شواهد يقيمون بها الحجة على رقة دين الأدباء وجرأة الشعراء على المعتقدات وما يتصل بها من مقدسات.
وربما يجوز لنا أن نرى في عصبة الذين نقموا على الشاعر حديثه عن القدر وعيا لا نراه لدى أولئك الذين خطفوا الخطفة ثم طاروا فرحا يلهجون بشاعر الحرية والشعب والنضال الوطني دون أن يلمحوا ما يشي به البيت من علاقة بالشعب مشوبة بالتوتر لا تكشفها إعادة البيت إلى سياقه في تجربة الشاعر فحسب، بل تتراءى كذلك خلف التركيب اللغوي للبيت نفسه.
***
يعقد أبو القاسم في بيته بين الشعب والقدر والحياة علاقات تحيل البيت إلى مصطرع لقوى تتدافع وإرادات تتصارع ويمحو كل منها الآخر حتى لا يكاد يبقى لأي منها معنى يمكن التسليم به، ولا دلالة يمكن الركون إليها، وإذا ما نزلنا هذه الأكوان الشعرية منزلتها من تجربة الشاعر لم يعد بإمكاننا أن نجد في الحياة ما يستحق أن يناضل من أجله الحريصون عليها، ولا في الشعب ما يستحق أن يهتف به المؤمنون بإرادته، ولا في القدر ما يبرر غضب المنافحين عن حماه.
وإذا كان من شأن الشرط(إذا) الذي يتصدر الجملة الشعرية وتنعقد عليه العلاقات بين أكوانها ومكوناتها أن يحيل إرادة الشعب إلى احتمال يقابله احتمال آخر يتمثل في العجز والاستسلام، فالشعب إما أن يريد الحياة وإما أن لا يريدها فإن من شأنه كذلك أن يجعل استجابة القدر احتمال كذلك يقابله احتمال يتمثل في المناوأة والممانعة، فالقدر إما أن يستجيب وإما أن لا يستجيب، والقطعية التي تتراءى في (لا بد أن) ترتهن لإرادة الشعب أو عدم إرادته، وفي هذا الإطار تبدو الحياة مجرد احتمال معلق بين إرادة الشعب وممانعة القدر.
ثمة إذن بنية عميقة غائبة للنص لا ينبغي لبنيته الظاهرة أن تشغلنا عنها، فمقابل أن يريد الشعب الحياة فيستجيب القدر أن لا يريد الشعب الحياة فلا يستجيب له القدر، أهمية بنية النفي المضمرة تتأتى من أنها تخاتل بنية الإثبات الظاهرة وتعمل على إلغائها حتى يوشك ألا يتراءى في النص غير أولئك الذين أقعدهم عجزهم عن أن يمتلكوا إرادة الحياة فاستسلموا لمصيرهم المفضي بهم إلى العدم والهلاك على نحو يستدرج القصيدة إلى لغة تنذر بالويل وتهدد باللعن:
من لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر
من لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
ويل لمن لم تشقه الحياة من لعنة العدم المنتصر
ألعن من لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش بين الحفر
وينزاح الصراع الذي كان أفق التوقع يرسم احتمالاته بين حاكم ظالم وشعب مظلوم وقوى مستعمرة وشعب مستعمر؛ ليصبح صراعا كونيا بين وجود وعدم ونور وظلام وشتاء وربيع وموت وحياة وغيرها من آفاق فلسفية شعرية يستغرق فيها الشاعر بعيدا عن تجارب الشعوب المناضلة من أجل حريتها واستقلالها، وتصبح مواجهة القدر باعتباره قوة كونية قاهرة وغامضة في آن متمثلة في قوى كونية مناهضة له لا تقل عنه غموضا تتراءى في الريح والأرض والغاب والنور والربيع وما إلى ذلك مما أطلق عليه الشاعر اسم «روح الكائنات المستتر»:
كذلك قالت لي الكائنات
وحدثني روحها المستتر
وتنتهي القصيدة ببيت يخاتلنا بدوره بما يشبه العودة إلى بدايتها:
إذا ما طمحت للحياة النفوس
فلا بد أن يستجيب القدر
غير أننا إذا ما لاحظنا إزاحة «النفوس» في البيت الأخير ل«الشعب» الذي احتفى به البيت الأول، وهي الإزاحة التي لم يكن الوزن يضطر الشاعر إليها فيما لو قال «إذا طمحت للحياة الشعوب» ‘ أدركنا أن الإزاحة تصحيح للبيت الأول وتكريس لنظرة «النبي المجهول» التي هتف فيها الشاعر من قبل بالشعب قائلا:
أيها الشعب ليتني كنت حطابا
فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سالت
تهد القبور: رمسا فرمس
.......
ليت لي قوة الأعاصير ... لكن
أنت حي يقضي الحياة برمس
أنت روح غبية تكره النور
وتقضي الدهور في ليل ملس
وروح الشعب الغبية لا يمكن تفهمها إلا بمقابلتها بروح الكائنات المستتر الذي توقفت عنده قصيدة إرادة الحياة ورأت فيه النموذج الأمثل للإرادة التي تنازع القدر سطوته وعنفوانه.
تزيح «النفوس» «الشعب» لتحيل تجربة إرادة الحياة إلى تجربة نفسية تتحول فيها الذات الشاعرة إلى جزء من قوى الطبيعة الغامضة التي تلوذ بها فتحقق لها وجودها وتوفر لها العزلة والفرادة والغربة بعيدا عن الناس:
هكذا قال شاعر فيلسوف
عاش في شعبه الغبي بتعس
جهل الناس روحه وأغانيها
فساموا شعوره سوم بخس
****
لا ينهض بتفسير العلاقة المتوترة بين الشاعر والناس ما وجده الشاعر من تعنت إنكار بعض المحافظين عليه تجديده في الشعر أو سخطهم على ما رأوا في شعره من انحراف عن مقتضى ما يقره الشرع من أساليب القول، ذلك أن مرد هذه العلاقة المتوترة حالة الاغتراب التي وجدت في إنكار من أنكروا عليه مذهبه ما يعززها ويكرسها، حالة الاغتراب الروحي التي يجد فيها الشاعر سببا يحقق من خلاله انتماءه لحركة الشعراء الرومانسيين كما استقرت في فرنسا، وكما بدت بوادرها تأخذ في التشكل من خلال تجربة جماعة أبولو في مصر، وهي الجماعة التي كان أبو القاسم حفيا بها حريصا على التواصل معها والنشر في مجلتها والحصول على ما فاته من أعدادها ومناصحة أصدقائه بالاطلاع عليها، ولم تكن أبولو سواء كانت مجلة أو جماعة أو مذهبا في كتابة الشعر سوى أفقا مختلفا يوفر للشاعر موقعا وموضعا مختلفا عن مواقع ومواضع من حوله، ويعزز القطيعة التي كان الشاعر حريصا على أن تضرب بينه وبين من حوله.
ولم تكن الغربة تجربة حياة لشاعر ينتمي لأسرة لها مكانتها الرفيعة في غمار الحياة العامة، كما كان لها دورها المرموق في سياق الحياة الثقافية وهذه المكانة لها من الأثر كما للدور في حياة الشاعر إذ ظل مذ حداثة سنه مرتبطا بمحيطه ومن يحيطون به من علماء العصر ومفكريه وقياداته السياسية وهو ما مهد له بعد ذلك أن يكون عضوا فاعلا في الحركة الثقافية مندمجا في العمل من خلال مؤسساتها المختلفة، لم يكن الشاعر منعزلا كما لم يكن معزولا، والغربة التي تتردد أصداؤها في شعره لا نكاد نجد لها سببا في حياته وهو ما يجعلنا نزعم أنها حالة اغتراب شعري ترتبط بما رسخه الاتجاه الرومانسي من تصور لتميز الشاعر عمن حاوله وارتقائه عما ينشغل به الناس من هموم في حياتهم اليومية وحين يجد نفسه مضطرا إلى خوض غمار هذه الحياة يبدو متأففا ومضطرا إلى ما يشبه الاعتذار عن عما لا يراه لائقا به من مشاركة الناس همومهم اليومية، ويتحول تأففه على هجاء لاذع للمجتمع والشعب شعرا ونثرا، مكرسا من خلال هذا الهجاء اللاذع المسافة التي تفصله عن الناس وتحفظ له تميزه عنهم حتى وإن شاركهم ما هم به منشغلون.
والشاعر الذي أراد له من أراد أن يكون مترجما لصوت الشعب لم تكن رسالته كما أرادوا له، إذ ثمة صوت آخر كان يراه أجدر بالإصغاء له واستلهام وحيه هو صوت الفن الخالص الذي كان يعد كل انشغال بصوت آخر سواه من باب الكفر به، يقول في رسالة لصديقه الخليوي:
«إن الفنان يا صديقي لا ينبغي أن يصغي لغير ذلك الصوت القوي العميق الداوي في أعماق قلبه، أما إذا أصغى إلى الناس وما يقولون وسار في هاته الدنيا بأقدامهم ورآها بأبصارهم وأصغى إليها بآذانهم فقد كفر بالفن وخان رسالة الحياة»
ولا تبدو الأزمة التي تضرب بأطنابها حول الشاعر أزمة مع وطن يتطلع للاستقلال، كما لا تبدو في إنكار الشاعر على شعبه تقاعسه عن خوض حرب ضد المستعمر بقدر ما تكشف عن أزمة وجودية تتمزق فيها الذات الشاعرة بين عالم المثل التي يؤمن بها ويتطلع إلى تحقيقها وعالم الواقع الذي يجد نفسه مرغما على العيش فيه، العالم الذي يحيا فيه الشاعر لا يتبدى إلا في صورة طيف يلوح من وراء «مجاهل الأحلام» و«جبل الدنيا المقدسة جبل الفن والفكر والأحلام».
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.