في المقال السابق عرفنا أن هناك فريقين داخل كل مجتمع؛ واحدا يقود التغيير ويدعو إلى التطور، والآخر يقوم بحركة مضادة ويقاوم كل جهود التطور، والأسباب التي تدعو للتغيير أو المحافظة كثيرة، أشرنا إلى بعضها في المقال السابق، وبعضها يمكن الاهتداء إليه ببساطة من خلال ملاحظة الحراك الاجتماعي في أغلب بلدان العالم. وقد حاولت أن أبرهن على أن التقدميين أكثر عقلانية ودراية بمسار التاريخ من المحافظين، وأن هؤلاء الأخيرين ليسوا منسجمين بصورة صحيحة مع التاريخ والقوانين الطبيعية. ومع ذلك فليس المحافظون بأقل ذكاء أو فهما من التقدميين، فهناك حسابات أخرى لا علاقة لها بالحق والفهم والصدق والموضوعية تلعب دورا كبيرا في صياغة مسار التطور الاجتماعي أو معارضة هذا التطور. على أن ثمة نقطة مهمة يجب إبرازها هنا وهي تتعلق بفريق المحافظين، وتحديدا الأتباع، وليس القادة. فالأتباع بالعادة هم السواد الأعظم وهم الأكثرية في مجتمعاتنا العربية وما ناظرها من المجتمعات الأخرى التي يكون التقليد فيها قانونا راسخا في الضمائر والعقول. ومن أجل هذا فخطوات التقدم الاجتماعي العربي بطيئة جدا مقارنة مع المجتمعات الحرة والمفتوحة التي تربى ونشأ أفرادها على الجرأة والجسارة وحب المغامرة، وقبل ذلك على التربية التي تنمي الجانب الفرداني الاستقلالي للنشء. فلنحاول هنا أن نحلل طبيعة الجسارة والخوف اللذين ينتابان الأفراد التقليديين؛ أي الذين يهابون التقدم ويخافون اقتحام المجهول إن «المجهول» هو مربط الفرس في تحليلنا، ففي رأيي أن أعظم وأخطر مغامرة قام بها البشر هي «المغامرة المعرفية» أو العلمية أو الفلسفية، بل هي أشد خطرا من المغامرة المجنونة التي قادت الإنسان إلى القمر والكواكب السيارة البعيدة !. أجل، فالمغامرة المعرفية هي التي دفعت الإنسان إلى تجاوز حالة الجهل. والمفارقة أن «الجهل» هو التشبث ب(المعلوم)؛ أي بالأفكار التي توصل إليها المجتمع أو توصل إليها أسلافهم، إنه المعلوم الذي صار مبتذلا، بل صار «جهلا» فاضحا بسبب ديمومته وتعلق النفوس به لزمن طويل. وأما (المجهول) فهو ما يسعى إليه «العلم»، وهو بالتالي ما يسعى إلى تحقيقه فريق التقدميين المغامرين. إن المغامرة المعرفية هي أساس كل مغامرة بشرية أخرى. هناك خوف عميق من المجهول ينتاب غالبية الناس، وهو خوف مرتبط بالموت والفناء، فالموت شيء غامض ينتظرنا، إنه الغاية التي ينتهي إليها سير الإنسان وامتداد الزمن به. وببساطة فالمجهول هو في إحدى تعريفاته تخل عن المألوف وارتماء في أحضان مستقبل ليست له ملامح. إنها غربة روحية عارمة لا يطيقها إلا القلة. هذا هو التفسير النفسي للخوف من التطور الذي ينتاب العامة من الناس، ولا أقول الخاصة، فكما ذكرنا فقادة المحافظين بالعادة لهم أهداف ومرامٍ أخرى تتعلق بمصالحهم الشخصية ومناصبهم، ولو لم يحقق لهم «مبدأ المحافظة» هذه المكاسب لكان لهم رأي آخر، وهذا الحكم لا ينطبق على الكل وإن كان ينطبق على الغالبية العظمى منهم، كما أني لا أبرئ الفريق الآخر؛ التقدميين، فقادته بالمقابل لهم مطامع ومكاسب شخصية لولا أن مبدأ التطور يحققها لكان لأغلبهم رأي آخر!. إن عامة الناس يخشون المجهول بطبيعتهم، ولذا فهم لفرط هذه الخشية يتشبثون بالمألوف (المعلوم!) حتى ولو كان سخيفا أو غير معقول. وأما مسار التقدم فالذي يقوم به هم أفراد قليلون، أو هم ممن يسمون بالطليعة المغامرة، وهم حتى يسبقون قولا وفعلا القادة المنظرين الذين يغامرون بأقلامهم فقط. هؤلاء الأفراد، أو هاته الطليعة الأولى تواجه بمقاومة شرسة من الجميع، فعامة الناس يرفضون التغيير ويخشونه، وقادة الرأي العام المحافظون يخشون أيضا على مكانتهم وعلى مكتسباتهم الشخصية، وأما قادة الفكر الحر الذين يفترض بهم أن يكونوا داعمين ومساندين قولا وفعلا لهؤلاء الأفراد الجسورين فإنهم يكتفون بالصمت خوفا من غضب الناس وقادتهم. إذن فالخطوة الأولى للتغيير الاجتماعي يقوم بها أفراد قليلون، قد يتقلص العدد ليصبحوا «فردا واحدا !!». بعد ذلك تبدأ خطوة ثانية، هي أهم خطوة للتطور الاجتماعي، وأقصد بها ازدياد عدد المجددين. لقد قام الأفراد الأوائل بالمهمة، ويبقى الآن السؤال الحاسم: كم عدد من سينضم لهم ويسير في الدرب ذاته؟! إن عدد الأتباع المغامرين مرتبط بظروف معينة؛ مثلا: هل كانت ردة فعل المجتمع قوية وعنيفة جدا على هذا «الفعل التطوري»؟، إذا كان الجواب نعم فنحن بحاجة إلى مغامرين لا يقلون شجاعة عن الطليعة الأولى لكي يواصلوا المسيرة ويطرقوا «الحديد الحامي» حتى يلين ويألف الناس التطور نوعا من الألفة وتخف حدة المعارضة، وهنا يبدأ الناس شيئا فشيئا في ممارسة السلوك ذاته الذي وقفوا ضده بالأمس. على أنه قد يخلو المجتمع من الشجعان والجسورين وهذا يحدث بالفعل!! فيموت التقدم ويتلاشى مع وهج الخطوة الأولى، فيعود كل شيء إلى ما كان عليه وأسوأ. إن ازدياد عدد المغامرين يجعل من التطور شيئا مألوفا، ويصنع له قاعدة جماهيرية لا بأس بها، قادرة على البقاء وصد المقاومة الشرسة. ويوما تلو يوم يصبح التطور (الغاية التي سعى إليها الأوائل المغامرون) شيئا مألوفا وعرفا اجتماعيا راسخا. ولكنه ويا لعبث الأقدار تعود الكرة من جديد، فيتشبث (المجتمع) بهذا السلوك أو هذه الفكرة ويقاوم بشدة كل من يخرج عليها. إن ما تمتاز به المجتمعات الحديثة أنها رغم مقاومة التطور في البداية سرعان ما تتفهمه وتدرسه وتعتنقه إذا كان فيه ما يستحق الاعتناق. فالحرية التي يتمتع بها أفراد تلك المجتمعات تجعل كل فرد لا يهاب المغامرة ولا يخشى التطور، ومع انكسار هذا الحاجز النفسي الوجودي الرهيب لا يبقى سوى نقطة مهمة تتعلق بالتطور والتغيير:«هل ما أنا مقدم عليه مفيد ومثر وأكثر جدوى من المألوف؟!»، وهذا السؤال «مثالي» نوعا ما، فالتغير بكل حال رغبة تنتاب المجتمعات الحية بصرف النظر عن طبيعة وجدوى هذا التغير. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة