تفرض القراءة الحصيفة للسنوات الست الماضية من حكم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الارتكاز إلى عدة عوامل في السياسة والاقتصاد والمجتمع والسيرة الذاتية، وكل ذلك في سياق قراءة المرحلة في شخص رجل وهو الذي أمضى أربعة عقود ونصف في موقع المسؤولية ملكا وقبلها وليا للعهد ونائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء عايش خلالها أهم مراحل البناء في المملكة ومفاصل التاريخ ومنعرجاته في المنطقة والعالم. ولعل الواقع السياسي والمتغيرات الدولية التي يشهدها العالم عموما والمنطقة خصوصا، جعلت الدور الاستراتيجي الذي تقوم به المملكة في دائرة الضوء خلال السنوات العشر الأخيرة، لا لكونها تشغل موقع قلب المنطقة جغرافيا فحسب، وإنما بالنظر إلى سياستها الواعية كضامن لاستقرار اقتصاد العالم وقد تفجر عن أزمات خطيرة خلال السنوات القليلة الماضية. أضف إلى أن المملكة استطاعت الإحاطة وباقتدار بالمتحولات الممتدة بجوارها عبر خط النار الأول الممتد من منطقة الخليج العربي والعراق وصولا إلى بلاد الشام والبحر الأحمر، وكذلك الخط الثاني الذي لم تهدأ فصول متغيراته من اليمن إلى السودان وعلى امتداد الضفة الغربية للبحر الأحمر من الجنوب وحتى الشمال. التركيز في دور المملكة وأهميتها دافعه مكانتها في العالم الإسلامي والشرق الأوسط وكونها أحد أهم الكيانات الاقتصادية على الخريطة الدولية. وهذا المركب الاستراتيجي يصعب تأمينه دون استقرار في القرار ودون استيعاب ما يدور بفعل الصراعات الإقليمية وطموحات السيطرة التي دفعت بقوى من المنطقة وخارجها للسعي إلى خلخلة الوضع العربي والدفع بالأزمات نحو الأمام والربط التعسفي بين الملفات، كما يحصل في ملف إيران ومحاولاتها ارتهان المنطقة لمصالحها ونزوعها إلى إشعال بؤر توتر في أكثر من مكان من اليمن إلى البحرين إلى العراق إلى جنوب لبنان وفلسطين مرورا بسورية، ومحاولاتها في آن معا الظهور بمظهر المدافع عن القضايا العربية. إذ ظهر أن المسألة لا تعدو كونها لعبة تحريك أذرع سقطت في الشأن الفلسطيني عند أول اختبار، وهو ما جرى مؤخرا عبر توقيع اتفاق المصالحة الذي تأخر طويلا بفعل فاعل. قدر المملكة الجغرافي أن تتحمل الضريبة المضافة، ولعلها استطاعت حسب المراقبين أن تنظر بحصافة إلى ما يجري حولها وأن تحافظ على توازنها. ولم يكن العقد الأخير ابتداء من هجمات 11 سبتمبر التي غيرت في تاريخ العالم مرورا باحتلال أفغانستان والعراق ومن ثم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 وحرب تموز في لبنان بعدها بعام واحد والرصاص المصبوب على غزة نهاية 2007 وصولا إلى الأزمة المالية العالمية (وول ستريت 2009) فحرب الحوثيين (شمال اليمن) والوضع في السودان إلى أن انتهى الأمر بنيران البوعزيزي التي أشعلت سلسلة ثورات أطاحت بسلة جمهوريات أولها تونس ومصر وهي تستعر اليوم في ليبيا واليمن وسورية. صحيح أن أحدث سبتمبر فرضت فيما بعد تداعيات خطيرة وشقت صف العمل العربي المشترك، كما خلخلت صورة الأحداث خلال السنوات التي أعقبتها شكل التعاون، وأعادت الطموح المفترض في شكل التعاون بين مكونات المنطقة. إلا أن الرياض لم تنفعل بل تفاعلت مع السياق التاريخي بتركيز سياسي واقتصادي واضح وساعد على ذلك انهماكها في الحلول بدل التوصيف الذي اشتغلت فيه مؤسسات ودول حاولت ترسيخ فكرة محاور على شاكلة محوري الاعتدال والممانعة الذين ابتسرتهما إيران والقوى المرتبطة بها وفقا لسياسة تجيير انفجرت وهماَ في أكثر من ملف وأهمها ملف الصراع العربي الإسرائيلي الذي تم توجيهه بشكل غير صحيح. لقد ساعدت الأحداث الأخيرة من خلال العاصفة التي اقتلعت أنظمة في تأكيد دور المملكة والتعويل على سياستها واستقرارها كنواة لإعادة ضبط الإيقاع من داخل المنطقة، وهو ما جرى في ملف البحرين كحاصل جهد خليجي مؤثر وفاعل. ولا ينكر المراقبون على الرياض قدرتها على التعامل مع العاصفة وانخراطها في حركة التاريخ، الأمر الذي عجز قسم من الدول العربية عنه، كدلالة على أن التراكم الذي امتد لعقود منذ نهايات النصف الثاني لستينيات القرن الماضي ظهر على شكل صدع كبير لا تتحمله سوى البنى الواعية والمكونات الدولية التي ترتكز إلى سياسات تحاكي حركة التاريخ، وتقدم مبرراتها للبقاء في كل لحظة، وتتجاسر على مشكلاتها كل حين لتقدم رؤى للحل وتساير التطور الذهني للأجيال وحاجات مجتمعاتها، في وقت لا تتعامى فيه عن ضرورة انخراطها في تأمين محيط مزدهر مستقر بعيد عن الاضطرابات. بالعودة إلى الوضع الداخلي في المملكة وفترة تولي الملك عبدالله بن عبدالعزيز مقاليد الحكم، فإنه ليس خافيا بأن العالم الذي يسلط الضوء على دور الرياض تلمس جليا مفاصل التطور في فكر الدولة خلال ست سنوات سواء في جانب التأسيس لمنظومة عصرية من القوانين والتشريعات، أو من خلال تمكين شرائح المجتمع وتأهيلها للانخراط في حركة البناء والتنمية. ولا يغيب عن ذهن المراقبين مستوى التركيز على التعليم والبحث العلمي وتطوير فكر المجتمع، وعدم الركون في كل هذا إلى عائد النفط في بناء الاقتصاد، فالمملكة اليوم تشكل قاعدة ضخمة للصناعات البتروكيماوية والتحويلية وهي ترتب أمورها بطريقة تضمن استقرارا مديدا لا استقرارا وهميا تقوضه الهزات. لقد شهدت المملكة خلال فترة حكم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز استقرارا وتصاعدا في الدور. كما أنها أظهرت الفترة بما لا يقبل الشك بأن المملكة تحكمها مؤسسة عريقة تتفهم واجبها ومسؤولياتها، ولا تنكر على شعبها حقوقه في العيش الكريم، كما لا تتعامى عن المخاطر المحيطة والمحدقة في الخارج على اعتبار أنها لاعب مهم وفاعل ومعول عليه إقليميا ودوليا. وضمن هذا الإطار، يمكن القول أن شخص الملك عبدالله بن عبدالعزيز ومؤسسة الحكم، عكس حقيقة دور الرياض في صنع المرحلة، إذ لا يمكن قراءة دور خادم الحرمين الشريفين على اعتبار أنه شخص في مرحلة، بل يجب الاعتراف بأن يجسد حقيقة مرحلة في شخص.