في مقال أمس، لم تكن الغاية من الحديث عن رسالة القيان وكاتبها الجاحظ، مجرد إظهار رأي الجاحظ في حل السماع وزيارة بيوت القيان، فهذا لا يهمنا كثيرا، لأن الجاحظ ليس فقيها ولا يؤخذ عنه القول بالحل والتحريم. كانت الغاية شيئا آخر، كانت الرغبة في التأمل فيما يظهر من تضاد يثير الاستغراب، بين ما يقوله الجاحظ أحيانا في تلك الرسالة، وما اشتهر به من رجاحة العقل وبعد النظر! فالجاحظ يورد في كتابه قصصا ماجنة لا يقبل بها العقل منسوبة إلى أشخاص معروفين، وهي قصص وأخبار يتجسد فيها الكذب ويبدو فيها الوضع، لكن الجاحظ يحكيها على أنها وقائع صادقة، لا يبدي تشككا حولها ولا يظهر منه تردد في قبولها، وهو ما يتنافى مع طبيعة الجاحظ الذي يميل دائما إلى تقديم العقل والاحتكام إليه، فما يذكره المؤرخون عن الجاحظ أنه كان ذا نزعة اعتزالية، والمعتزلة يقدمون العقل وأحكامه على كل شيء، وقد وصفه أحمد أمين أنه «قل أن يقبل خرافة»، كما أن الكتب خلدت القول بأن «كتب الجاحظ تغذي العقل». بل إن الجاحظ نفسه كان يتباهى مفتخرا أن من طبعه أن يقف موقف الشك مما يتلقاه من أقوال الآخرين، مهما بلغت شهرتهم ومكانتهم، فلا يصدق سوى ما جربه بنفسه واستوثق من صدقه، فلم إذن يورد في رسالة القيان تلك الأخبار والحكايات التي يبدو في معظمها الصنعة وطغيان الكذب؟ لم يفعل ذلك؟ إنه من المستبعد أن يكون الجاحظ قد صدق تلك الحكايات الماجنة التي يرويها، فلم يوردها؟الأمر الثاني، الذي يستدعي التأمل في تلك الرسالة، منطق الجاحظ عن النساء، حيث بدا ذلك المنطق بعيدا عن أن يصدر عن مفكر ينظر بشمولية وعمق، كان منطقا أقرب أن يكون لإنسان سطحي لا يرى أبعد من ذاته وما يسرها أو يؤذيها. فهو حين يتحدث عن النساء لا يذكرهن على أنهن أصل في هذا الوجود يشكلن الحياة فيه كما يشكلها الرجل، وإنما هو يصفهن أنهن خلقن من أجل نعيم الرجل وسعادته، فكما خلق الله الأنعام لسعادة الإنسان، خلق المرأة لسعادة الرجل وراحته، فالجاحظ هنا لا يرى فرقا بين الأنعام والمرأة، فكلاهما عنده خلقا من أجل سعادة الرجل! بل إنه حين يستشهد بقوله تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، يستشهد بها ليؤكد ما يراه من أن خلق المرأة ما هو إلا لأجل الرجل، هو يفهم الآية على أن المخاطبين هم الرجال فقط، وأن المراد بالأزواج في الآية هن النساء، رغم أن الآية ليس فيها ما ينص على ذلك، فهي موجهة للناس كلهم ذكورهم وإناثهم، كما أن (الأزواج) تشمل الرجال والنساء.يقول الجاحظ «والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض وكل ما تقله أكنافها، للإنسان خول ومتاع إلى حين، إلا أن أقرب ما سخر له من روحه وألطفه عند نفسه، الأنثى، فإنها خلقت له ليسكن إليها، (...) ولولا وقوع التحريم (...) فإنه كان يقال ليس أحد أولى بهن من أحد، وإنما هن بمنزلة المشام والتفاح الذي يتهاداه الناس بينهم!كأني بالجاحظ أدرك مدى الخطل الذي أورده في رسالته تلك، ومنافاة ما جاء فيها لما عرف عنه من عقل وفكر، فذكر في خاتمة الكتاب على سبيل الاعتذار وتبرئة النفس، أنه مجرد راو للرسالة التي أشار في مقدمتها إلى أسماء أصحابها يقول: «هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمينا في صورها، فإن كانت صحيحة فقد أدينا منها الرواية، والذين كتبوها أولى بما تقلدوا من الحجة فيها، وإن كانت منحولة فمن قبل الطفيليين إذا كانوا قد أقاموا الحجة في أطراح الحشمة والمرتكبين، ليسهلوا على المقينين ما صنعه المقرفون، فإن قال قائل إن لها في كل صنف من هذه الثلاثة الأصناف حظا وسببا فقد صدق». ص. ب 86621 الرياض 11622 فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة