يستهلك أدب الرحلات معظم ما كتبه الروائي الأمريكي بول ثيروكس. كتب هذا الروائي ما لا يقل عن 30 رواية من بينها «ساحل الناموس» و «التاريخ السري المزعوم» وغيرهما من الروايات. لكن هذه الروايات جميعا لم تصنع له اسما حتى كان على موعد مع شهرة ذات طابع خاص عام 1975. في تلك السنة أفرزت مطابع الكتب رواية «سوق السكة الحديدية»، فطار فورا اسم ثيروكس سريعا إلى الآفاق، ولا زالت مؤلفات الروائي ثيروكس محل تدوينات أدبية بمراجعات نقدية إلى تاريخه. ينتمي ثيروكس إلى أب كندي ذي ثقافة فرنسية، وأم إيطالية. وقد ساهم شعوره بهذا المزيج العرقي في أن تكون له شخصية ذات طابع غريب، ورغم كونه نكديا وسليط اللسان، فإلى جانب ذلك كانت لديه القدرة الكتابية في أن يصف الفوارق بين جنس وآخر في أسطر قلائل. ومع ذلك ولد في بوسطن، وعاش 17 عاما من حياته في إنجلترا، وعندما انفصل عن زوجته الإنجليزية، غادر إلى هاواي، واقترن بامرأة أخرى ومارس تربية النحل، وجمع صورا يابانية سيئة السمعة. عندما أراد نقاده أن يكتبوا عنه في الصحافة الأدبية وجدوا أن من الصعوبة بمكان فصل أعماله الروائية عن شخصيته. والسبب أن شخصية ثيروكس تكاد أن تكون جزءا أساسيا مما يكتبه، فيما يرى نقاد آخرون ثيروكس أقل حدة خارج الرواية من خلال حياته الخاصة. ذهب الروائي ثيروكس إلى كل مكان فكر في الذهاب إليه، وتجول ذات مرة في مسافة تمتد من جبل طارق غربا إلى تل أبيب شرقا. قطع هذه المسافات راكبا الحافلة حينا، وحينا آخر مستقلا القطارات وعبارات البحر. قال نقاده ممن قرأوا روايته الموسومة بأعمدة هرقل وغيرها إنه حاد الطباع، ومشاكس في كثير من تصرفاته، وكان دوما في رحلاته يبحث عن جوانب جديدة لرواية الرحلة، لكن روايته عن ساحل الناموس جلبت إليه الحظ والشهرة، فقد كتب الرواية من خلال سرديات متعددة وهي تحكي قصة مواطن يكتشف ذات مرة خواء الحياة الأمريكية، ولذلك قرر بمعية زوجته اكتشاف حياة أكثر نقاء من خلال تجربة طوباوية تفضي بكليهما إلى الحياة في غابات الهوندراس. وكم كانت المفاجأة تتمثل إليه في صيغة انقلاب درامي من خلال الرواية، إذ سرعان ما اكتشف هذا الرجل الذي يحمل بطي ذاكرته من الداخل الكثير من تفاصيل الروائي ثيروكس نفسه أنه هرب من مستنقع ليقع في مستنقع من نوع آخر. لقد كان يرى من خلال مشروعه في الانتقال من البالوعة الأمريكية إلى حقل يكتظ بالحشرات الضارة والقوارض والناموس وقطاع الطريق وبذلك صار هدفا سهلا للفوضى داخل الغابة. هنا فقط كتب ثيروكس ذات مرة على لسان صديقه الحميم «لقد تطورت الأمور بشكل خاطئ حيث تبخرت الأحلام ولم يبق من الواقع الطوباوي سوى أرتال الناموس التي تنتظر حصصها من دمائنا يوما وراء آخر». ذات مرة استوقفته الإذاعة البريطانية لإجراء حديث معه عن حياته الخاصة والكشف عن حقيقة الإبداع في ذاكرته، فقال عن حياته الخاصة إنه كان ينوي أن يصبح طبيبا، لكن الكتابة سرقته من هذه الرغبة إلى الأبد. لكن القضية الأهم من هذا وذاك في حياته الأدبية تتمثل في موقفه من الإبداع، إذ يرى الروائي ثيروكس أن الناس لا يصبحون كتابا، وروائين وفنانين نتيجة لتطور الإحساس بالفن، أو نتيجة لارتقاء الذوق الأدبي، أو لكونهم يستحقون ذلك من ناحية الصحة العقلية، فهناك القليل من الناس يصبحون كتابا حقيقيين ومبدعين بالفعل نتيجة الشعور بالوحدة، ونتيجة مشاعر انطوائية قاهرة. هنا فقط تكلم ثيروكس عن فئة الخواص في المبدعين، موضحا أن الإبداع في حياتهم ربما يتألق من نواح تعويضية كأن يكونوا يعانون في دواخلهم من خلل وظيفي قاهر. The Mosquito Coast Paul Theroux - 384 pages