حي الجناح من أقدم الأحياء، منه انطلقت وتأسست عنيزة في مراحلها الأولى وامتدت وتوسعت، وظل هذا الحي بأبنيته الطينية ومزارعه القديمة سنين عديدة دون أن تمتد إليهه الصيانة اللازمة لتصبح إرثا تاريخيا تطلع عليه الأجيال الحالية والمستقبلية. من هذا الحي بدأت عمارة عنيزة في القسم الشمالي، وهو أقدم أحياء المحافظة عمارة، فقد أرجعه باحثون ومؤرخون إلى عام 494ه (1100م)، فيما أرجعه المؤرخ إبراهيم بن ضويان إلى مطلع القرن السابع الهجري وبالتحديد عام 630ه (1232م). ووفق الدكتور محمد السلمان أستاذ التاريخ في جامعة القصيم، كان أول من سكن عنيزة بطن من بني خالد يسمون الجناح، ومنهم استمد الحي اسمه، ثم سكنه فريق من سبيع بزعامة زهري بن الجراح من آل ثور، وكثر جيرانه والنازلون حوله، فتكونت بذلك أربع ديرات أو «حارات»، هي الضبط، الخريزة، العقيلية، والمليحة، إضافة للجناح، وكان النزاع مستمرا بين هذه الديرات، واستمرت الحال كذلك عدة قرون حتى غزا الشريف أحمد بن زيد أمير مكة نجد عام 1097ه فهجم على العقيلية وهدم سورها، فاجتمع أهل العقيلية والخريزة والمليحة وكونوا إمارة خاصة بهم، وبقي الجناح منفصلا عنهم وصارت إمارتهم لآل فضل من سبيع وعرفت «عنيزة». هذه اللمحة التاريخية عن حي الجناح تمنحه قيمة تاريخية بما يمثله من مرحلة تأسيسية لمحافظة عنيزة، ومنه انطلقت إلى التطور الذي تشهده حاليا مثل بقية المحافظات الأخرى. وفيما أكد مصدر في بلدية عنيزة أنها مهتمة بهذا الحي، ونفذت سفلتة لشوارعه الصغيرة، وتتابع من خلال عضويتها في لجنة تحديد البيوت الآيلة للسقوط كل ماله علاقة مع الجهات المختصة لدرء الأخطار، أكد الأهالي أن هذا الاهتمام بالحي يجب أن يترجم إلى واقع عملي بتحويل المباني القديمة إلى مكان تراثي ليطلع عليه الأبناء والأحفاد. لجنة الفلائح وردا على مطالبات الأهالي باستغلال المزارع القديمة في المجال السياحي، بين مصدر البلدية أن مسؤولية هذه المزارع القديمة تدخل ضمن لجنة شكلت أخيرا تحت مسمى «لجنة الفلائح في عنيزة»، مشيرا إلى أن تحويل الحي إلى مزار سياحي وإنشاء منازل طينية فيه من اختصاص لجنة السياحة، لافتا إلى أن الأمر تعتريه بعض الصعوبات؛ لأن الأراضي مملوكة لآخرين وبعضهم قد يكون غير موجود على قيد الحياة. وأكد رئيس لجنة الفلائح يوسف الزنيدي، أن اللجنة تسعى لتطوير الفلائح القديمة والاستفادة منها بتحويلها إلى مزارع تراثية على غرار الزراعة القديمة بأدواتها وآلياتها، واستدرك قائلا «بعض الملاك يرفضون ذلك، ونحن لا نجبرهم فهذا ملكهم، ومتى ما رغبوا في التعاون معنا في هذا المشروع فنحن على استعداد لتنفيذه، خصوصا أننا بدأنا في تهيئة عدد من المزارع». «عكاظ» تجولت داخل الحي الذي يحتفظ بتراث قديم ومجموعة بيوت طينية قديمة ومهجورة، فيما تحتفظ بعض المزارع بمنازل صغيرة جدد الأهالي بناءها. الجناح التاريخي في داخل هذه المزارع القديمة التقينا بعدد من المواطنين الذين احتفظوا بأراضيهم الزراعية وتوارثوها أبا عن جد، قال العم أبو صالح «هذا الحي بدأ يندثر شيئا فشيئا فقد بدأت بعض بيوته القديمة تتهدم ولم يجدد إلا القليل منها وأصبحت بطراز حديث». وأرجع العم أبو صالح عدم إعادة صيانة بعض البيوت القديمة لصغر مساحتها، في وقت أصبح الناس يحتاجون لمساحات أكبر، مطالبا البلدية باستغلال هذه المنازل القديمة وتحويلها إلى مكان تراثي، مع تشييد بيوت صغيرة من الطين شبيهة بما شيد من منازل في بيت البسام التراثي أو سوق المسوكف الذي أنشأه إبراهيم الحمدان، وذلك بهدف إعادة تراث الجناح التاريخي في هذا الحي الذي لا زالت معالمه واضحة جدا، خصوصا أن البلدية نفذت السفلتة للطرقات الصغيرة حسب المساحات الموجودة منذ القدم. من جانبه، أشار العم راشد الحمد إلى مشكلة أزلية تتمثل في وجود أبنية طينية مهجورة أكل عليها الدهر وشرب، وتشكل خطرا على المارة، خصوصا أن العديد منها آيل للسقوط في أية لحظة، وقد تستغل من قبل ضعاف النفوس كأوكار للجرائم والمفاسد والسرقات. وطالب الحمد بالاستفادة من هذه الأبنية الطينية القديمة بعد تهذيبها وتأهيلها لتكون مزارا سياحيا مثل بيت الحمدان، المسوكف، وبيت البسام، وبهذا تحفظ هذه البيوت من عبث العابثين. مزار سياحي ويتفق المواطن سعد المبروك مع ما طرحه العم راشد الحمد والعم أبو صالح في الاستفادة من هذه الأبنية القديمة وتحويلها إلى مزار تراثي، وقال «إن الحي أصبح جاهزا للاستفادة مع تشكيل لجنة الفلائح للاستفادة من الفلائح (المزارع) القديمة التي تتوفر في هذا الحي، دون أن تستغل في مجال السياحة كتراث عريق، لافتا إلى أن مهرجان التمور في السنوات الأخيرة بدأ يطلق حفلاته الافتتاحية في المزارع القديمة في حي الجناح الذي يمتلك مقومات للتعريف بمزارعه كتراث قديم. من جانبه، قال أحمد السعيد أخصائي علم اجتماع «إن البنية الاجتماعية تعتمد على الكثير من الغرائز والسلوكيات والطبائع، وحينما تغفل عين الرقيب عن مكان ما أو موقع معين، فإن هذا المكان أو الموقع سيصبح وكرا للاستغلال السيئ من قبل ضعاف النفوس، أو مستودعا للمفاسد، سواء كانت أخلاقية أو سرقات»، مستشهدا بحادثة حي البابية في عنيزة قبل بضع سنوات، حينما استغل أحد الوافدين غرفة طينية من بقايا منزل متهدم، وبدأ يجمع فيها مسروقاته مستغلا غفلة الأنظار عنه، مضيفا «أن ما حدث في البابية يمكن أن يحدث في حي الجناح، خصوصا أن الظروف متشابهة». وأكد ضرورة الحجر على المنازل الطينية المهجورة لمنع الوصول إليها، وذلك بإحاطتها بسور آمن، حيث إن بعضها فيه عدادات كهرباء قد تغري ضعاف النفوس للتواجد باستمرار في هذه الأبنية القديمة. وخلال جولتنا في الحي لاحظنا وجود مبان حديثة بعضها يسكنها أصحابها، والبعض الآخر معد للاستثمار، لكنها قليلة، وفي طرف من هذا الحي التقينا الدكتور أحمد صالح متخصص في التاريخ ومهتم بالآثار، وأكد ضرورة الاهتمام بالأبنية والأطلال القديمة في هذا الحي، والحفاظ عليها لتستمر كآثار تاريخية مهمة على مر السنين، وطالب بإنشاء قرية صغيرة تحمل اسم الحي الذي بدا يندثر ويزول شيئا فشيئا، وقال «إن قرية الجناح التراثية ستسهم في توثيق تراث هذا الحي، ونأمل أن تتولى الهيئة العامة للسياحة والآثار إطلاق هذا المشروع المهم، خصوصا مع توفر الإمكانات ووجود فنيين في عنيزة لديهم الخبرة والقدرة على تصميم المباني التراثية المعروفة في نجد»، ويقترح أن يتبنى رجال الأعمال في المحافظة مثل هذه المشاريع التراثية حفاظا على ثقافة وهوية المجتمع. إهمال التراث واستغرب الشاب فهد الصلال (طالب جامعي) إهمال الأهالي هذا التراث العظيم، وقال «نأمل من الهيئة العامة للسياحة والآثار أن تعمل على حفظ هذا التراث من الضياع والاندثار، وذلك من خلال شراء الجوانب المهملة من الحي وتحويلها لمكان تراثي وإصلاح مايمكن إصلاحه». وأضاف نحن جيل فاتنا زمن البناء الطيني، ومن حقنا وأبنائنا وأحفادنا أن نطلع على أحوال آبائنا وأجدادنا في هذا الحي القديم الذي شهد مراحل تأسيس تاريخية لمحافظة عنيزة ويحمل بين ثناياه حقبة زمنية جميلة.