عند قراءتك لهذا العمل الأدبي الرفيع سوف يصيبك الشعور نفسه الذي أصاب بطل الرواية «شن زن»، كأنك على بساط سحري ينزلق عبر الثلجي الذي تحته، ترتجف من الخوف، منبهرا، بتوقع أخطار محدقة، تطفو مثل كائن إسطوري، وتشعر بالامتنان البالغ للذئاب، وبدو السهوب المنغولية، لأنهم جعلوك تتعرف إلى نوع يكاد يكون خياليا من الحياة البدائية، تحكي الرواية أحداثها بشاعرية سينمائية معبرة عن آلام منغولية دفينة، ومفاخر انتصارات تاريخية لجينكيز خان، الذي علمته الذئاب فنون القتال، ومنحته أسرار الموت والحياة والانتصارات والصبر .. إن كنت تظن أن الذئاب مخلوقات شرسة وعدائية، كما علمتك الكتب المدرسية، وحكايات الخرافة، التي منحت الثعالب في قصص الطفولة جدارة بالمحبة لذكائها، فأنت الآن أمام شيء مختلف، عمل روائي يقتحم الذئاب بحنان مستحق، ورأفة يقودك إلى تغيير قناعات كثيرة، حيث ليس في الطبيعة من حيوان أكثر تساميا وكمالا من الذئب، الحياة في السهوب المنغولية يمكنها الاستحواذ حتى على اهتمام إمبراطور، لدرجة التخلي عن عرشه، لكن مثل هذا الولع ما كان ليصيب قارئا، لولا براعة الراوي «يانغ رونغ»، وهذا ليس اسمه الحقيقي، لكنه اسم مستعار، وقع به الروائي واسمه الحقيقي «لو جيامن» روايته، ولهذا التخفي تحت اسم مستعار، ملابسات سياسية، وحذر مبرر .. قد لا تكون إسطورة الذئاب الطائرة، حقيقة، مثلما يؤمن بدو السهوب المنغولية، لكنك حين تتوغل في الرواية المتوغلة في حياة الذئاب وخفايا أخلاقياتها والدهاء، ستعرف أن الذئاب يمكنها أن تطير فعلا جاعلة من ذكائها الحاد، وفطنتها المتوقدة، أجنحة هي أقرب للحقيقة منها للمجاز .. هناك مثل منغولي يقول: (الذئاب تقتفي أثر الريح)، وهذه الرواية تقتفي أثر الذئاب والريح معا، رافعة أكثر من لافتة: احذر الذئاب حين تنتقم، خاصة تلك الإناث التي فقدت جرائها بسبب الإنسان، فهذه بالذات، مستعدة للقيام بأعنف العمليات الانتحارية، هل ذكرتك هذه اللافتة بنساء فلسطين المغتصبة، لقد فعلت بي ذلك أيضا .. لافتات أخرى: ترويض الأحصنة البرية، كان أكثر أهمية من اختراعات الصين الأربعة: الورق والطباعة والبوصلة والبارود، عد على أصابعك ما تعرفه الذئاب جيدا في فنون القتال: المناخ، الطوبوغرافيا، الفرصة المواتية، مدى قوتها وقوة العدو الاستراتيجية والتعبئة العسكرية، القتال عن قرب، القتال الليلي، حرب العصابات، القتال السيار، غارات بعيدة المدى، غارات صاعقة، الكمائن، وعندما تحاول صيد جرائها من الوجار، ستكتشف أيضا، كم هي ماهرة في حرب الأنفاق والتمويه، الخدع الحربية ال 36 جميعها تشترك في اللعبة، فيما عدا ما يتعلق بخدعة المرأة الجميلة طبعا!.. عندما تنتهي من قراءة هذه الرواية، لن تحب أن تنهش لحمك الذئاب حيا، لكنك ربما فكرت طويلا، فيما لو كان بالإمكان إهداؤها جثتك، حتى لو لم يكن ذلك إرضاء ل «تينغر»، مانح الذئاب حكمتها، والدهاء، والتي تعوي طالبة النجدة منه دائما، فلا يخذلها .. (رمز الذئب) أوركسترا مدهشة من الركض، ولسوف تشم روائح زكية، وتشاهد أشكالا من الأزهار، لن تجد مثيلا لها حتى في الحدائق الملكية .. رواية رائعة، كتبت بعناية فائقة، وصبر، ذلك أن بطلها «شن زن» ليس سوى اسما مستعارا هو الآخر لكاتب الرواية، الذي عاش هناك في السهوب زمنا، وأحب الذئاب، وقام بتربية ذئب صغير، للتعرف عليها أكثر، بالنسبة لنا، يمكن القول إنها واحدة من أحسن الروايات التي يمكنها أن تعيد لنا صياغة القصيدة الشعبية الشهيرة التي منها هذا البيت: (تخاويت انا والذيب سرحان ... دعيته ف امان الله وجاني)! .. بقي من القول أن ليس كل ما يأتي لنا من الصين، بضاعة رخيصة القيمة، سريعة العطب، وقابلة للكسر!.