قال: ألا تتابع ما يرفرف في صحفنا! لا أستطيع أن أصدق ما يحصل لي من اضطرابات فكرية، كل يوم فتوى! لطالما تباهيت بقيمي، والآن تثار حولها التساؤلات؟! وتوجه إليها الاتهامات. ثم تنهد بصوت يملؤه اليأس. صمت برهة، ثم تبسمت قليلا، وقلت له: أتعلم ما الذي يخالجك؟ قال: غضب عارم. فأجبته: كلا! إنه إحساسك بأنك سليب الإرادة، لا تستطيع فعل شيء! دون أن تحصل على دعم معنوي من محيطك الخارجي. نشأت اتكاليا، وستبقى كذلك! أجابني بعزة وحماس منافيين لانكساره الآنف «هل قلت اتكالي؟. أنا متميز في حياتي العملية، ومنجز، ولا أتكل على الآخرين أبدا». قلت: جميل، لكن ألا ترى أنك في جوانب أخرى من حياتك اتكالي بعض الشيء؟!. تخيل لو أن أما ظلت تعتني بطفلها حتى بعد أن أصبح شابا في الثلاثين من عمره! كلما هم بأمر ما قال لها أماه أشيري عليّ، ماذا أفعل؟.. فكري عني وأنا سأنفذ! خططي لي حياتي واختاري لي .. ما هو الصحيح؟ .. أرشديني.. ماذا ستقول عنه: أظنك ستقول إنه اتكالي! قاطعني ضاحكا «دلوعة أمه واتكالي ما فيها كلام»! قلت: ألا تظن أنك ذلك الشخص؟ أخذته الدهشة قليلا ثم قال: كيف يكون هذا؟ أجبته: كلما مررت برأي شاذ أو مختلف عن رأيك هببت إلى أمك التي كانت تجود عليك بحنانها الدافئ لتجد ما يدفئ لوعتك ويزيل حيرتك ويذهب ريبتك فتنهل بكل أنانية. يا صديقي، هنا يكمن العجز: إن المحيط الخارجي الفكري والثقافي والاجتماعي بكل تمايزاته حاضن لمن فيه بكل تبايناتهم واختلافاتهم العرقية الفكرية والمذهبية. تماما كلوحة رسام كانت ناصعة البياض ثم تمايزت تجتذب الألوان إلى سطحها من كل طيف ولون؛ لتصبح لوحة فريدة متميزة بهوية مستقلة صنعتها تلك الألوان. فإن كان لك لون فيها عرفتها وعرفت ما مدى إسهامك في إخراجها بصورتها الجميلة، وإن تهت عنها ولم تعرفها فلربما دمعك الرقراق أذاب ألوانها وأغرقها، أو لربما بخلت عليها فجاد كل ذي مأرب بلونه. يا صديقي، لا أظن هويتك التي تنعى قد ذابت، بل هي موجودة في داخل الإطار، ابحث عنها، فتش جيدا ستجدها، ادعمها خير لك من أن تهديها دمعك. إن ما يثير قلقك هو فصل البذور حيث تصنع ملامح اللوحة الحولية المتجددة في كل عام، وبعدها ما تلبث أن تجف تلك الألوان بعد مطر الرسامين؛ فتزهر وتثمر ما أودعها الزائرون؟ فهل كنت منهم؟ أم تحدثت عنهم! يا صديقي! إن الأيادي المانحة خير من الأفواه اللاهثة. سيتذكرك وطنك بحجم ما قدمت إليه، لا بحجم ما تحدثت عنه وإليه.. أما بقية الألوان فليس لها سوى أن تتوارى وتخبو داخل الصورة أو تتهاوى خارج الإطار على أرضية الرسام. يا صديقي، لا تتضجر ولا تيأس، بل سائل الصفحات المشرقات يروين لك أنهن ولدن من ثنايا المتباينات. تبسم صديقي وتهللت أساريره وافترقنا على لوحة رسام ليست كتلك التي كانت عندما اجتمعنا. فهد أحمد عطيف أكاديمي سعودي باحث في لغويات الإعلام