المتعلم والجاهل، الصغير والكبير، الكفيف والبصير، كل هؤلاء يقنعهم ولا يمكن أن يشكوا في نزاهته. فالكلمة الأخيرة له هي الفيصل، والحد الذي يلغي أي كلام، ولا يمكن التلاعب به. عرفناه قديما، لكنه توارى عن الأنظار في هذا الزمن، احتل مكانه الحديث وسحبته التقنية.. الميزان أبو كفتين، رحل وأتت مكانه موازين رقمية مختلفة ومتنوعة، البعض لا زالوا يتوقعون أن القديم أكثر إنصافا، في حين يؤكد آخرون بأن موازين (الديجتل) هي الأكثر دقة للبائع والمشتري. القديم مقنع سعيد موسى العباس بائع في سوق شعبية في جدة، من الجيل الذي تعامل مع ميزان أبو كفتين قال: الموازين الجديدة دقيقة، لكن يسهل التلاعب بها دونما يلاحظ ذلك، فالميزان الذي يتكون من مؤشر وأرقام كبيرة يتوقف أمامها المؤشر ليحدد الوزن، وهذا النوع بالتحديد في أعلاه مسمار، لو حركته ناحية اليمين يعطي زيادة في الوزن عن الحقيقية، ولو حركته يسارا لأعطاني نقصا في الوزن الحقيقي، وهذا يمكن حدوثه دونما يشعر المشتري بذلك، لكن في الميزان أبو كفتين فالأمر صعب جدا، وبمجرد أن يتساوى اللسانين الخاصين بالميزان لا يمكن التشكيك في مصداقيته وعدالته، في حين أن الموازين الحديثة لا تدري عن مصداقيتها. وبالنسبة لي أميل للميزان القديم بالرغم من استخدام آخر حديث، لكن الميزان القديم له ذكريات قديمة وأحبة لدرجة لا تتصورها، ولعل هذا السبب الذي يجعلني أفضله وأمدحه الآن. ميزان البركة عويد مصلح الحربي (68 عاما) قال: عملت حوالى 44 عاما في المحل وبدايتي منذ الصغر مع والدي وانتهيت بمحل خاص، وأذكر ذلك الميزان الذي كنا نضع فيه السلعة ونوزنها من خلال وضع الكيلو أو النصف أو الربع، كان بسيطا ولا يتعطل، ومنصفا للجميع وأشعر أن البركة في ذلك الميزان، فهو غالبا يكون في صالح المشتري لأن البائع يضع كمية زائدة من السلعة من باب الاحتياط، بمعنى يكون رجحان كفة الميزان قليلا في كفة المشتري، وهذا الميزان يعلمك مع الزمن كيفية تقدير الكيلو والنصف وكذلك الربع، ومع مرور الوقت يمكن تقدير الكمية بيديك أو اليد الواحد. يد الحر ميزان مهدي نصر الله القوزي (91 عاما) تدخل قائلا: أذكر تحديا وقع بين ثلاثة من أصدقائي، عندما طلبوا وضع ثلاثة كيلو من الدخن في كيس دونما أوزنه، قبلت هذا التحدي شريطة أن يتبرعوا بثلاثة صناديق من مشروب غازي، كل صندوق فيه 24 زجاجة توزع في الحارة، وبدأت بالوزن ووضعت الكمية في كيس، وحملت قليلا من الدخن، وقلت هذه الكمية بالتمام، وضعوا الكمية في كفة ثم توجهوا لأثقال الوزن من نوع الكيلو وضعوا الأول ثم الثاني والثالث، فوجدوا الميزان لم ينزل لسانه عن الآخر، فكانوا متساوين ونفذ الثلاثة ما وعدوا به ووزعوا المرطبات أو الصناديق الثلاثة على المارة، ولهذا كان القدماء يقولون «يد الحر ميزان»، وقد صدقوا، أما بالنسبة للموازين الحديثة فهي لا تسمح بذلك الإحساس. بكرات الزفت يحكي محمود عبد الوهاب تمراز (79 عاما) قائلا: كان لدى والدي دكانا كبيرا معروفا للتوريد، وكان أغلب المحال الصغيرة كثيرا ما تشتري منه، وأذكر أن والدي أحسن إلى عامل وجده في حالة يرثى لها من العوز والفاقة، فأراد أن يكرمه من خلال تشغيله في المحل، حيث كان يكلفه ببعض الأعمال التي لا علاقة لها بالاحتكاك مع الزبائن، كحمل الكراتين أو الأكياس، وبعدما شاهد نشاطه وهمته وثق فيه، وأصبح كثيرا ما يتركه يحل محله في أعمال المحل ومن ضمنها المحاسبة و البيع. بعد فترة بلغ والدي تذمرا من الزبائن من تصرفات العامل، فقد كان يستهزئ بالزبائن وتعامله لم يكن حسنا، الوالد اعتبر ذلك في البداية وشاية وكيد، حتى ذات يوم حين أتى رجل من البادية إلى الوالد وقال: أعرفك رجلا تخاف الله وأخشى عليك أن تحشر مع المطففين بالكيل، وأنت لا تدري جئتك لأبلغك أن هناك خللا في ميزانك فلعلك لم تنتبه، أربع مرات أشتري من محلك، وأذهب إلى دكاني في البادية وأجد الوزن ينقص بمقدار ربع كيلو، وآخر مرة اشتريت من محلك وذهبت للمحل الذي يقع أمامك، ووزنت البضاعة فوجدتها تنقص نفس الكمية، فرجعت أبحث عنك وحينما لم أجدك لم أرد أن أخبر العامل الذي كان يجلس مكانك، فقدمت إليك الآن وقد برأت ذمتي. فقفز والدي مذعورا وأصر على أن يرافقه الرجل إلى حيث كان يضع الميزان، وأول شيء فعله الوالد أن نزع صحن الكفة التي غالبا ما يضع فيها السلعة، وليس الكفة الخاصة بوضع أثقال الوزن فذهل، فالعامل فضل أن ينتقص وزن البضاعة من المشترين، على أن يحمل الكمية الزائدة ويبيعها لنفسه، بصورة لا تثير الشك، فالنقود ستكون زائدة عن النقود التي يعرفها والدي عن بيع كمية البضاعة، لقد انكشف أمره عندما رفع والدي كفة الوزن، ووجد أن العامل وضع تحتها كرات صغيرة من «الإسفلت» الأسود ووزعها على أنحاء بصورة عشوائية على أنحاء صحن الميزان الخاص بالمشتري، لذا أحصى والدي مدة العامل، وأعطاه مستحقاته، ثم طلب منه ألا يرى وجهه مرة أخرى. الأمر الغريب أن ذلك العامل أصبح من كبار الموردين ولديه محل كبير للبضائع. أدقها للذهب يوسف وحيد (40) قال: الميزان القديم كان جيدا، لكن الرقمية في الواقع هي أكثر دقة، لأنها تعمل وفق حساسات تستشعر أي تغيير في الوزن مهما كان طفيفا، وهناك أنواع مختلفة من هذه الموازين و أشكالها، وأكثرها دقة ميزان الذهب، ثم ميزان عينات المختبرات الطبية، ثم العود. وعموما رغم دقة هذه الموازين، إلا أن هناك نسبة خطأ لا تتجاوز عددا محدودا من الجرامات لا يتعدى 2 جرام، ولهذا تجد في كافة السلع التي يتم وزنها من المصدر أو المورد يكتب عليها (-+ 2 جم). والموازين تمتد من الموازين الدقيقة وتنتهي بالأشياء الثقيلة كالسيارات والشاحنات. الحديث بلا أثقال يتدخل إسماعيل شكيب (30 عاما) قائلا: من مميزات الميزان الرقمي أنه سهل الاستعمال، ولا يتطلب مجهود مثل القديم، كما أنها تتميز بدقة عالية وفائقة ونسبة الخطأ تكاد تكون شبه معدومة. وقد ساهمت التقنية في صناعة أنواع مختلفة منها ولمختلف المجالات، فمثلا لدينا هذا الميزان وهو ميزان خاص (بست البيت)، وأقصد خاص بالمطبخ ويستعمل في وزن مقادير الطعام.