(1) ماء تتفجر الأسئلة في رأس الفتى كالينابيع الساخنة، فيفز من رقاده ويركض في شمس النهار وسط شارع مدينته ويسمع صوتا خافتا يشبه الأنين. يقول: في مدينتنا هذه حيان. في كل حي بيت واحد. يحدق في الأرض فيرى: الماء ينبع في المدينة من الأرض. والمياه تجمع. تنقلها الصهاريج. تفرغ في براميل واسعة. تنقل للتخزين. وتباع للتجار. ما تبقى تأخذ الدواب والأشجار منه ما تيسر لها. وجزء تشربه شقوق الأرض. الفتى يسمع صوت الأنين. يمشي: الحيان في المدينة يفصل بينهما شارع، في الجهة اليمنى يقع بيت كبير، تتعدد غرفه، وتتسع. يسكن فيه أناس يدورون جل الوقت متضجرين من التنقل بين شرفات واسعة، يهب عليها النسيم، وتزقزق في أرجائها خضرة ربيع دائم طوال العام. يلتفت: فيرى في الجهة المقابلة نخلة طويلة تنتصب وسط بيت. يقترب فيسمع صوتا يشبه الأنين، وتهب على وجهه رياح شتاء. يرى أناسا يتراكضون إلى باب غرفة وحيدة.. يدلف مع بابها. فيهش بوجهه المجتمعون، وتنطلق من عيونهم كلمات حميمة فتملأ الجو دفئا. يسمع أصواتا خافتة كالغناء.. ينصت معهم إلى غناء الكلمات الطائرة في الجو، تدور الأغنيات حول سعف النخلة.. وتبدأ الرقصة.. تخرج القامات من الغرفة، وتتشابك الأيدي الدافئة حول النخلة مغنية لحنا شجيا.. يدورون، فيضيء الحوش، وتستطيع الجدران وتحلق طيور أو غيوم متشابهة. وإذ ذاك ينأى الحي الآخر ويتسلل بعض الفتية منه مشتعلين بأسئلتهم. يهش لهم الفتى صادحا: في مدينتنا حيان، واحد في ربيع دائم. وآخر في الشتاء. ينضوي الفتية إلى رقصة النخلة ملتقطين دفء الكلمات.. يرتفع نشيد باهر من الحناجر، ممتزجا بسعف النخلة: ثمة صوت خافت يشبه الأنين تأسره الريح. ثمة صوت يشبه الغناء يشربه الماء. (2) النعل كنت بالمطار، والتفت وإذا بالنعل بجانبي: كان فوقها قدم وساق، وثوب.... كانت النعل تتقدم نحوي، فحدقت بها حتى أتأكد من ذلك، ثم مشيت قليلا وأنا ألتفت قائلا لنفسي: لعلها مجرد نعل عابرة ! غير أني عندما انحنيت في ردهات المطار الواسعة والباسقة والواضحة، والمضيئة، والنظيفة، كانت النعل تنحني على نفس الخط، وتتبعني. ابتسمت لذلك، وتوقفت، ثم واجهت النعل القادمة، وأخذت أحدق بها: فجعت برثاثتها، وليونتها الضعيفة، وبالقدم الصغيرة الحافية والمتسخة والمتشققة المدخلة فيها. رفعت بصري قليلا. فبدت ساق سمراء نحيلة، تنوء بثقل الجسم الضئيل!، رفعت بصري أعلى، كان يتعدى المتر وربع المتر: عينان صغيرتان جدا تبحثان دوما عن شيء ما، بهما خجل ولؤم وطمع، وجوع، وجهل أسود كالغابة. سلطت عيني، فزاغ من جانبي، وبدا ظهره الصغير. تبعثه على البلاط اللامع، وأنا أبتسم لطرقعة النعلين، وسط هذا البهو الواسع. بعد أمتار التفت، وعندما رآني، أسرع الخطى، فلحقته حتى اختفى. ذهبت لأشرب القهوة.. ولم يسعفني الوقت حيث دخلنا الطائرة، وقادتني المضيفة إلى مقعدي في الصفوف الأخيرة.. حيث وجدت بجانبي نعلين رثتين أخريين. ابتسمت وأنا أنظر إليه، ومددت يدي وربطت حزامه، وربطت حزامي: إلى أين يفر الآن، وأنا معه في السماء ! لقد اصطدته. وانطلق صوتي ضاحكا، وأنا أفكر في كل النعال والأحذية في الأرض. (3) رثاء قلم الكاتب يدخل في صومعته ويغلق الباب سأكتب قصيدة بالمناسبة ! يفتح أدراج ذاكرته، يفرك أصابع فرحه، ويخرج كيس الكلمات: تصطفق الكلمات متطايرة في سماء الغرفة باحثة عن ضوء.. يصطادها، واحدة واحدة، ويصفها على الورقة القاحلة كجثث العصافير.. يغلق الكيس ويضعه في الدرج.. يدخل بهو الصالة المرمرية اللامعة.. ومن فوق المنصة يقذف بعصافيره فتتساقط الجثث في آذان المصفقين الملولين.. فيما تطير كلمات أخرى في فضاءات الشوارع الطينية والبيوت المنخفضة.. منطلقة من أفئدة الناس باحثة عن أنهار تجمع أمطارها. (4) رثاء تتابع امتدت يد الوقت قابضة على الفراشة، ساحبة الألوان من ارتعاش أجنحتها. الوردة توقفت عن الضحك، وأخذ أريجها يضمحل واليد تخنقها، الرجل تباطأ، ثم جثا متهالكا، واليد تتخطاه عاوية في صلابة الصخور. جبير المليحان