عندما نتأمل خلق الإنسان في بداية التكوين نجد أن تكوينه الخلقي يرتكز على عنصرين؛ التراب والماء، وبامتزاج هذين العنصرين تتشكل مادة التراب لتصبح طينا، ولأن الطين مادة في بداية تكوينها تبدو أكثر طواعية وتشكلا، فإن هذه المرحلة هي مرحلة التشكيل، وهي المرحلة التي تتم فيها صياغة المادة وإبراز ملامحها، فإذا ما ذهبت رطوبة الماء يبس الطين وانتقل إلى الطور الثاني من أطوار المادة الطينية، وهي الخزفية أو الفخارية، وهنا يمكن ملاحظة أن الملامح تبدو جافة غير قابلة للتغيير، ليصبح الشكل الأول هو الثابت النهائي. إلى هنا والصورة الخلقية تبدو صورة تمثالية، جوفاء، تفتقر إلى روح تبث فيها الحركة، وتعطيها بعدا إنسانيا، فإذا ما نفخت الروح اكتسبت هذه المادة الطينية روح الحياة، وسرت في أطرافها كما يسري النور في المصباح، فأضاءت واشتعلت بالحركة والنشاط وصارت: إنسانا، يأنس ويؤنس، ويألف ويؤلف؛ وبذلك ترتفع صورة الإنسان عن مستوى التراب مادة الخلق الأولى. ولكن تبقى هذه الصورة الإنسانية المكتملة مشدودة إلى أصل التكوين: التراب والماء، وهذا ما يفسر الرغبات الأرضية التي تدنو بالإنسان إلى مستوى البهائم أحيانا، وأحيانا إلى مستوى أدنى من هذه الدرجة {أولئك كالأنعام بل هم أضل}، وهنا يتدخل العنصر الروحي ليرقى بالصورة الإنسانية إلى أعلى، ويشدها إلى المثل العليا والقيم الفاضلة، وذلك ما تفعله الروح حين تحلق بالجسد إلى درجات عليا ترفعه أحيانا إلى درجة يكاد يصافح فيها الملائكة. هكذا يبدو الإنسان وهو يتأرجح بين الخير والشر، وبين كبح جماح الرغبة وجنوحها، ولأن حياته موقوفة على هذا الجسد ومتطلباته، وعلى الروح وإشراقاتها، فهو مطالب بعدم تغليب متطلبات الجسد على متطلبات الروح، ومطالب، أيضا، بعدم تغليب متطلبات الروح على متطبات الجسد، لأن الأولى تصله بمستوى البهائم، والثانية تفصله عن مستوى البشر. وبين هاتين الدرجتين ثمة مستويات عدة، من هذه المستويات مستوى الشكل الخارجي، وهو شكل يغلب مادة الطين على مادة الماء، أي أنه يغلب جزءا من المادة الجسدية على جزء آخر من المادة نفسها، الطين على الماء: اليبوسة على الرطوبة، وهنا يمكن ملاحظة أن الشكل هنا يأخذ ملامح التمثال/ الخزف، فتبدو الملامح قاسية، ذات صلف، ويبدو الشكل أجوف وإن كان ذا بريق خارجي، من هنا يمكن أن ندخل إلى الشكل الدلالي لرسم صورة المتكبر في شكل الإبريق! الإبريق المتكبر من هذا الشكل الدلالي للإبريق، تشكلت رؤية الشاعر إيليا أبو ماضي في هذا النص، حيث أسقط شكل الإبريق على الإنسان المتكبر، فالإبريق يبدو من شموخ أنفه صورة معادلة للمتكبر، وقد ركز الشاعر على هذه العلامة ليجعلها مدخلا إلى ربط العلاقة بين الإبريق والمتكبر، وهذا مستوى دلالي أخص من المستوى الأول، لأنه في المستوى الأول من الشكل، وهو اختيار مادة الإبريق من الطين، كان يربط علاقة بين الإبريق والإنسان بشكل عام، وذلك ما يشير إليه الشاعر في قوله: وما أنت إلا كالأباريق كلها .. تراب مهين قد ترقى إلى خزف لكنه في المستوى الدلالي الثاني يأخذ بعدا خاصا، هو البعد السلبي، في صورة المتكبر، وقد مهد لهذا المستوى في مطلع النص «ألا أيها الإبريق مالك والصلف»، بعد ذلك أشار إلى الصفات السلبية التي يمكن أن تكون صفات إيجابية لولا أنها جاءت في سياق الصورة الشكلية الخالية من المضمون فصفات «الشموخ، الاعتزاز» هي في ذاتها صفات إيجابية، لكن الشاعر أفرغها من مضمونها حين ربطها بشكل الإبريق، وجعلها مرتبطة بمادته الجافة، اليابسة، من خلال مفردة المطلع (الصلف)، وهي المفردة التي بنى عليها الشاعر رؤية النص، والصلف يحيل إلى القسوة والخيلاء والكبر، لذلك فإن الصفات التي شكلت كبرياء الإبريق هي ذات شقين: حسي، ومعنوي. أما الحسي فيتمثل في: الشكل الخزفي «تراب مهين قد ترقى إلى خزف»، وفي: شكل الأنف «أرى لك أنفا شامخا»، وأما المعنوي ففي: الشموخ السلبي الذي لا يأنف برغم مباشرة الأدنياء له، وفي: الاعتزاز السلبي المجرد من قيمته الحقيقية: الصوت والحسن، وقد حرص الشاعر على أن تكون هذه الصفات مسلوبة، خالية المضامين، ومن دون قيم، لتتفق دلالتها مع الشكل الدلالي للإبريق: الخالي من القيمة، مما يعني أنه خزف مجوف، لا يحتوي على ما يجعله حقيقا بالشموخ والاعتزاز. ونلاحظ في المقطع الأول من النص أن الشاعر كثف حضور المفردات السلبية التي تعزز رؤيته، (تراب مهين، أثواب الغبار، الأدنياء، الطغام)، إضافة إلى ذلك استعمل أسلوب النفي لسلب الصفات الإيجابية وإدخالها ضمن العناصر السلبية (وما أنف، فما شكا، فما وجف، ليس للديك مثله، لست بذي ريش). من هنا انتقل الشاعر إلى المقطع الثاني من النص، وهو مقطع ارتكز على الحوار الذي وظفه الشاعر لهدفين؛ الهدف الأول إعطاء الإبريق صفة الإنسان بقصد إيجاد المعادل الموضوعي للإبريق، وهو هنا: الإنسان المتكبر؛ لذلك كان هذا الحوار كاشفا عن تلك الدوافع التي جعلت هذا الإنسان يتكبر، وهي من خلال فحوى الحوار، تتمثل في: الشعور بأنه المتفضل وصاحب الإنعام. أما الهدف الثاني، فهو الكشف عن سلبية هذا الاعتقاد، وأنه شعور عكسي، يظهر في نهاية الحوار، حيث فضل الماء على الطين: «ألم أحمله قلت: لك الشرف». وهنا يمكن أن ندخل إلى رؤية النص، وهي غلبة الجوهر على المظهر، حيث يرمز الماء إلى الجوهر، والطين إلى المظهر، وقد كان الشكل الدلالي للإبريق يعزز جانب المظهر من خلال عنصر التراب/ الطين ، بينما يعزز عنصر الماء جانب الجوهر، لذلك كان النص في جانب يعكس لنا دلالة الشكل من خلال العنوان: الإبريق، ومن خلال الصفات الحسية، والمعنوية السلبية، وفي جانب آخر يعكس دلالة المضمون من خلال المقارنة بين الإبريق والديك، حيث يمثل الأول الشكل الأجوف، ويمثل الثاني الشكل الدال على مضمون، وقد اختار الشاعر الديك للمقارنة مع الإبريق، لتقارب الشكلين والافتراق في المضمون والجوهر: الحياة والموت، الاعتزاز الإيجابي والاعتزاز السلبي، الشموخ الحقيقي والشموخ المزيف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر قد عزز دلالة الماء وفضله على الطين، لأن الماء سبب للحياة {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وهذه الحياة هي التي منحت الديك اعتزازه بريشه وصوته، في حين سلبت من الإبريق فبقي شكلا فارغا من الصفات الإيجابية، وقد عزز الحوار، في البنية الثانية للنص، هذا الجانب، وتحديدا في نتيجة الحوار، وخاتمة النص «فلولاه لم تحمل ولولاك ما وقف»، حيث منح الماء الإبريق الحركة، وهي من معطيات الحياة، في حين منح الإبريق الماء الجمود والتوقف، وهي صفة سلبية من صفات الموت والعدم، ليظهر بذلك فضل الجوهر على المظهر الخارجي. الصورة والظل كان هذا النص كما هو واضح، يعالج جدلية الشكل والمضمون ، أو المظهر والجوهر، وينتصر للثانية على الأولى، وذلك من خلال إفراغ الصفات الشكلية من مضمونها، وإعطاء الصفات المعنوية القيمة العليا، ليصل الشاعر بذلك إلى صورة موازية للنص، هي الصورة التي يمكن أن نعبر عنها بمعادل الرمز؛ أي هي ظل النص، وهامشه، وليست هي المتن، لتكون صورة المتن (إبريق شامخ في معرض التحف) بينما تأتي صورة الهامش، وهي الصورة الموازية، لتدل على (إنسان متكبر في مكانة اجتماعية عالية)، مع ملاحظة ما توحي به دلالة معرض التحف على الأشياء الثمينة المعروضة أمام أعين الناس دون أن تكون لها قيمة، وهي حالة موازية -أيضا- للمكانة الاجتماعية التي تفتقد قيمتها حين تعرض بصاحبها عن الناس؛ ليكون، فقط، صورة معروضة للفخر والرياء.