الموت يمنح الصحافة كتابات وصورا، يسيل المحابر من خزاناتها، ويجدد هدير المطابع، يلبس الجرائد والمجلات ثيابا وبدلات للمشي في الجنازة. قبل أيام مات «غانم الصالح» أحد أفضل وأهم وأنجح الفنانين في الكويت والخليج العربي، ولو قرأ ربع ما كتب عنه بعد موته لمات ربما أكثر اطمئنانا على أن العمر والجهد لم يذهبا هدرا، وردة واحدة فيما لو قدمت له على خشبة المسرح، وردتان فيما لو قدمتا على خشبة السرير كانت وكانتا أطيب عطرا وأنضر من كل هذه الورود على خشبة النعش، لكننا قساة وأكثر جحودا مما نظن، والموت يكشفنا أمام أنفسنا ويفضحنا فنسارع بتزوير مشاعرنا، نلبسها ثياب مراوغة تعلن حزننا على من رحل، وحقيقتها حزننا على ما تبقى، وخوفنا من الموت ومنا وتبدي وفاءنا، وحقيقتها نكراننا والجحود. عذرا «غانم الصالح» كنت فنانا شامخا تنازلت قليلا نعم في بعض المسرحيات خصوصا، لكنك بقيت على الدوام فنانا كبيرا، قدرتك على سحب البساط شبه إعجازية، ومهاراتك التراجيدية لا يضاهيها غير حرفنتك الكوميدية، كان عيبك في أدوار الشر أن بريق عينيك لا يقدر إلا على أن يظل مشعا بطيبة نادرة وأكرم من التخفي، فلم نقدر على كرهك، ولكنك كنت من الموهبة لدرجة أمكن معها إيجاد الحلول. لم نكرهك نعم، لكننا كنا نخافك، كنت مرعبا حقا حين كنت تريد ذلك، أما المباهج والمسرات فقد كانتا في طينتك ومائك ، ويوم جاءتني رسالة قصيرة حزينة من أستاذتي «ليلى أحمد» تقول برحيلك، تنبهت إلى أنك لم تهتم كثيرا بالظهور خارج المسرح أو استديوهات التصوير، كم كانت حواراتك نادرة وقصيرة ومتباعدة كأنك أردت أن لا تقيم علاقة حقيقية مع غير فنك وموهبتك وعالمك الإبداعي فهل كان موتك الدور الأخير في الغربة وبلا جمهور وعلى خشبة أضيق من خشبة المسرح، الأكيد أنك أتقنت الدور فلم يعد ثمة مكان لعملاق مثلك في ساحة العبث والضجيج والأقزام المتعملقة التي تظهر في برامج الكاميرا الخفية وحيلهم بينهم والبرامج المشابهة أكثر وأفضل مما تظهر في المسرحيات والمسلسلات، فليكن موتك رسالة لتكريم كل عمالقة جيلك من الأحياء، عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج وإبراهيم الصلال وخالد العبيد وحياة الفهد وسعاد عبدالله ومحمد جابر وأحمد الصالح وجاسم النبهان ومريم الصالح وعبدالرحمن العقل أمد الله في أعمارهم. وليكن عزاؤنا بك: احتفالنا بهم، فبذلك فقط يمكن لنا الاعتذار منك، اعتذارا يمكنك قبوله. رحمك الله رحمة واسعة، وغفر لك ما تقدم من ذنبك، وأسكنك فسيح جناته.