أكتب هذه الكلمات وأمامي سلة تفاح تسببت في تأجيل كتابة المقال عدة مرات. لم أستطع أن أقاوم ألوان الفاكهة الجميلة التي تحاكي تدرج ألوان الطيف: من الأحمر والأصفر، ثم الأخضر.. وملمس كل منها أملس وكأنه منحوت ليداعب حواسك ويذكرك بروائع نعم الله التي لا تعد.. وأما الرائحة فهي ليست فواحة، ولكنها تجعلك تتأهب بهدوء لنكهة التوليفة السكرية الفريدة لكل من أنواع التفاح المختلفة. ولا يتوقف الموضوع عند الطعم، فهناك روائع أثناء المضغ، فالتفاح مثلا يصدر فرقعة هي في الواقع انفجارات جيوب هوائية صغيرة تستعرض روائع هذه المعجزات. ولا ننس طبعا أنها مفيدة فكل خلية في أجسامنا تفرح وتستفيد من هذه النعم المفيدة. ولكن لابد أن لا ننس أن بذور التفاح تحتوى على سم «هاري» وهو الزرنيخ. ومن ألطاف الله أنه بكميات صغيرة لا تسبب أضرار كبيرة إلا لو استهلكنا منه كميات كبيرة جدا. وغريب أمر الخلط بين المفيد والمضر في كائن واحد لأن فيها تناقضا يصعب تخيله، وخصوصا في عالم البشر. ولعل إحدى أغرب الأمثلة على ذلك هي قصة العالم الألماني «فريتز هابر». كان هذا العبقري أحد نجوم عالم الكيمياء في مطلع القرن العشرين، وتحديدا فرع الكيمياء «الطبيعية» التي تعتمد على القياسات الدقيقة جدا، وتنتج عنها المنتجات الصناعية بكميات هائلة. وتفوق في العديد من المجالات، وكان ينظر إلى زميله «ألبرت إينشتاين» وكأنه «عيل». وأعظم إنجازاته على الإطلاق كانت تحضير «النشادر» أي «الأمونيا» الذي يجمع مادتي النيتروجين والهيدروجين. وكانت ولا تزال هذه إحدى أروع الاكتشافات في عالم الكيمياء لأنها فتحت الأبواب أمام صناعة الأسمدة بيسر مما تسبب في ثورة زراعية جديدة. وتحديدا، فكلما ما نستهلكه من مواد زراعية شاماة التفاح المذكورأعلاه يعتمد على مادة «النيتروجين» بشكل أو بآخر. وهي موجودة في كل مكان، ولكنها صعبة الاستخراج والتحول إلى شكل يسهل التعامل معها. وهنا كانت عبقرية «هابر» فقد نجح في تحويل النيتروجين الموجود في الهواء إلى مادة ساهمت في تغذية البشرية. ويقدر أن أكثر من ثلث سكان العالم اليوم ينعمون بمشيئة الله بنعمة الغذاء بسبب الأسمدة الناتجة عن اختراع هذا الرجل. وكمياتها تفوق المائة مليون طن سنويا. وللعلم فقد حصل على جائزة «نوبل» في الكيمياء عام 1918 تقديرا لهذا الإنجاز الجبار. ولكن جانب الشر لهذا العالم هو المفاجأة الكبرى، فقد استخدم قدراته لاختراعات حربية بشعة فأصبح يطلق عليه اسم «أب الأسلحة الكيماوية» لما صمم من آليات لاستعمال الغازات السامة خلال الحرب العالمية الأولى. كان يعتز بحساب عدد القتلى لكل «خلطة» من الغازات القاتلة التي كان يحضرها. وسميت العلاقة القاتلة «قانون هابر» . وكانت تصف العلاقة الرياضية الدقيقة بين تركيز الغاز القاتل وعدد القتلى في الميدان. وكانت علاقة علمية فريدة ومخيفة، بل وكانت أساءت للعلم والعلماء لدرجة أن زوجته الدكتورة «كلارا إميروار» انتحرت أمام عينيه باستخدام مسدسه. وبعد كل التكريم الذي حصل عليه، تغيرت الأوضاع وعلا شأن النازية في ألمانيا، وسقطت أسهم هذا العالم بسبب أصوله اليهودية التي كانت مكروهة من النازيين. هرب «هابر» إلى إنجلترا وعندئذ تعرف على عالم الكيمياء «حائيم وايزمان» الذي أصبح فيما بعد أول رئيس للكيان الصهيوني. وكانت الجهود قد بدأت لزرع نواة معهد «ماخون وايزمان» الصهيوني للعلوم على أرض قرية «الزرنوقة» الفلسطينية في قطاع «الرملة» في غرب فلسطين. وعرض «وايتزمان» على هابر رئاسة المعهد، فقبل العرض، ولكنه توفي في سويسرا أثناء تحضيره للرحلة إلى فلسطينالمحتلة. وترك أملاكه لمعهد «وايتزمان». أمنية للأسف إن التصرفات غير اللائقة والشريرة، شاملة القسوة العجيبة، والنذالة، أصبحت شبه اعتيادية في عالمنا.. ولكننا نعجب عندما تصدر من علماء وصلوا لدرجات عالية من السمو الفكري كما يتضح من قصة العالم المذكور أعلاه. طبعا هناك أمثاله من العلماء يعيشون اليوم بضمائرخاملة كسولة أو غائبة بالكامل عن الظلم الحاصل في العالم حولنا. أتمنى أن تصحو هذه الضمائر لأن المسؤولية تجاه رفع الظلم وبالذات في فلسطين هي أكبر لذوي العلم والمعرفة. والله من وراء القصد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة