على أي شيء يتغذى الفن؟ على الحزن، والفرح، على الآلام، والمسرات، على الأوجاع، والمباهج، نعم: كلها، تلهم الشعراء، والموسيقيين، وتظلل ألوان الرسامين بظلالها، لكن الناس كلها، تفرح وتحزن، وتتوجع، وتبتهج، فلماذا لا يكون كل إنسان موسيقيا، ولماذا لا يكون كل موسيقي بارعا، ولماذا لا يكتب الجميع الشعر، ولماذا لا يتفوق من الشعراء، غير قلة قليلة، من الموهوبين، هل الفنان أكثر إحساسا، من سواه، من الناس؟، أظن أن هذه واحدة من أكثر الكذبات زيفا، وتعاليا، ذلك أن إحساس أم مكلومة، بفراق ولدها، لا يمكنه أن يوصف بالإحساس الأقل، مقابل إحساس شاعر يكتب رثاء رائعا في نفس الولد الذي فارق الحياة للتو، في حين يمكن لهذه الأم، وكثيرا ما تفعل، تأليف قصيدة رثاء، في صغيرها، دون أن يكون لهذه القصيدة، أي أثر، وأي قيمة فنية، ولا أجد مثلا، أفضل من هذا، لوصف صدق الإحساس، وعظمته، حيث الثقة متناهية، في أن القارئ الكريم، لن يعترض، أو يتشكك ، في أن إحساس الأم، كان وسيظل، أعلى شأنا، وأن آلامها وأحزانها، أكثر حقيقة، من إحساس الشاعر، وحقيقة مشاعره، تجاه هذا الفقد، والغياب، فما الذي حصل، لتكون قصيدة الشاعر المبدع، أكثر إحساسا، وصدقا، من قصيدة الأم، أظن أنها (الحساسية)، وليست (الإحساس)، حساسية الشاعر، في لغته، ومن خلالها، تلك التي فجرتها الموهبة، وصقلها المراس، وأكدتها المعرفة، والتأملات، تأملات في اللغة، وفي طبيعة الشعر، وفي قوانينه، وتأملات موازية، في طبيعة الموت، والفقد، والغياب، مثل هذه (الحساسية )، هي التي يمكنها تشكيل الفوارق، وهي بصيغة أخرى: أحاسيس، نعم، لكنها أحاسيس، في داخل اللغة الشعرية، ومعها، ومن خلالها، أحاسيس اللغة الشعرية ذاتها، وصحيح أن الأم المكلومة، شأنها شأن أي إنسان، في أي وضع، لا تقدر على التفكير، دون لغة، وأنها بالتالي، وبالضرورة عبرت عن وجيعتها، من خلال لغة ما، لكنها، والمثل يفترض عدم وجود موهبة شعرية لديها، لم تفكر، ولم تؤلف قصيدتها، بلغة شعرية، وبمخيلة شعرية، ومن منطلقات فنية، لذلك بقي إحساسها عظيما، لكنها عجزت عن تقديم نموذج فني (شعري) له، أو من خلاله، فالشعر، ككل فن آخر، له (وسيط مادي)، لا يمكن العبور من فوقه، أو تجاهله، إذا ما أردنا تقديم منجز شعري، من أي نوع، والصراع، أو إمكانيات التفوق، تكمن في القدرة على التعامل، مع هذا (الوسيط المادي)، الذي هو في الشعر (الكلمات)، التي هي بحاجة لمعاملة خاصة، واستثنائية، ولإقامة علاقة تتمتع بالفرادة، والفرادة العالية، بينها وبين الشاعر، في العملية الشعرية، قبل، وأثناء كتابة القصيدة، إن غياب معرفة الإيقاع مثلا، والوهن في فهم تناسق المفردات، والأفكار، وتزاوجهما معا، بحيث يمكن لأي منهما، قيادة الآخر، نحو أفق أعلى، أمر لا علاقة له بصدق الإحساس، وعظمته، خارج الكيمياء الفنية للشعر ذاته، وفي الرسم مثلا، لا يكفي أن تحب شخصا، حبا عميقا، لتتمكن من رسم صورة معبرة له، ولا أن تبغضه بغضا شديدا، لرسمه كشيطان، أو وحش، محبتك، أو كراهيتك للشخص، والشخص نفسه، أمور لا يمكن لها دفعك لتقديم نموذج جيد، أو حتى (صادق) لما تكنه له من مشاعر، مهما كانت هذه المشاعر حقيقية، ومهما افترضنا قدرتها على الإنصاف، ذلك لأن للرسم (وسيطا ماديا)، هو اللون، لا يمكنك تجاوز، أو تجاهل، مفرداته، وتوازناته، ومعطياته، التي هي الفيصل الموضوعي، المادي، في اللوحة..